مقال
زيارة جديدة إلى قبر العقاد.. الجزء الثاني
كتب: إسلام كمال
كان صالون العقاد الثقافي من أشهر الصالونات الثقافية في القرن العشرين، وكان رواده مجموعة صاروا فيما بعد من أساطين الفن والكتابة، ومن أهمهم الكاتب الصحفي أنيس منصور والفنانة مديحة يسري، كتب منصور كتاب ضخم وأظنه أفضل ما كتب من أعماله الكثيرة والغزيرة، وهو كتاب "في صالون العقاد كانت لنا أيام" رغم أن بعض النقاد والقراء يروا أن منصور أفورها شوية، ولكن يبقى هذا الكتاب الرائع هو الدليل والمدخل لقراءة العقاد أو والاقتراب من هذه الشخصية المركبة.
كان الصالون يقام في صباح كل جمعة، وكان بابه موارب للجميع، لا يصد أحد حتى لو كان مختلفا معه في الرأي، ويحصل الجميع على واجب الضيافة من المشروبات الساخنة، رغم أن العقاد لم يكن يوما غنيا، ويتردد في بعض الأوساط الثقافية أن عندما توفي العقاد وجدوا في البالطو الخاص به خطاب من العقاد يطلب فيه من الناشر أن يصرف له مبلغا تحت الحساب حتى يستطيع أن يأكل، ولكن بلغه الموت قبل أن ينشره، ليكون خير دليل على أن مهنة الكتابة هي مهنة عظيمة والكتّاب هم ورثه الأنبياء الحقيقين دون تشدق أو رياء، وأن الكاتب صاحب الرسالة لا يكترث إلى المال على قدر أهتمامه بما يقدم من أفكار قادرة على التغيير والتنوير، بالطبع المال له أهمية حتى لا يكون العرض لا يخلو من بلاهة، خاصة بالنسبة للكاتب الذي تفرغ للكتابة وهم قلة في أوطاننا التي تقدم أشياء أخرى على الكتابة والفكر وما إلى ذلك من وسائل ومهن إنسانية.
اقرأ أيضًا: زيارة جديدة إلى قبر العقاد.. الجزء الأول
كان العقاد حاد في نقده ودخل في معارك ضارية كان سلاحه فيها هو قلمه، اختلف مع طه حسين وقال عنه أنه أعمي الأدب لا عميده ورد عليه طه بدوره ووصف العقاد بالجاهل، وهي نقائص طبيعية في النفس البشرية لا تجعلنا نكره أو نسخف أو نقلل من إنتاج والإرث الثقافي للرجلين، ومرة أخرى كان البعض يريد أن يمنح العقاد دكتوراه فخرية، وكان طه حسين جالسا بينهم، فسألوه هل يستحق العقاد الدكتوراه الفخرية فأجاب طه قائلا لا أعلم، وهي بالتأكيد إجابة لا تخلو من ضربة تحت الحزام، ومن معاك العقاد الأخرى عدم اعترافه بما يسمى "القصيدة النثرية" وكان المبشرين بها وقتها الشاعر صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، وكان العقاد عضوا في المجمع اللغوي فلما كانت تأتي إليه هذه القصائد كان يحيلها إلى لجنة النثر لا الشعر، الأمر الذي استفز صلاح عبد الصبور وكتب مقال عنوانه " والله العظيم موزون" ولا يخفي على أحد أن العقاد كان من المؤيدين والداعمين لسعد زغلول، وكتب كتاب عنه، وعاب البعض على العقاد أنه سعدي لا وفدي، أي أن الرجل يؤيد شخص لا كيان أو فكرة التف حولها الجميع متمثلة في حزب الوفد، ومن المرات كتب مقالا يهاجم فيه الأحرار الدستوريين، الحزب المنافس أو المقابل للوفد وجعل عنوانه "يا شراميط" وهذا ما ذكره الكاتب مصطفى أمين في كتابه الرائع "لكل مقال أزمة".
المرأة في حياة العقاد كانت حاضرة دائما، رغم أنه عاش ومات حسب الروايات الرسمية عازبا ولم يتزوج، ولكن ما يخالف هذه الرواية هي حكاية جاءت في ختام كتاب أنيس منصور، ويقول أن اليوم الذي توفي فيه العقاد حضرت فتاة وكانت تصرخ وتقول أبي مات، ويضيف منصور أنهم استرضوها ومضت إلى حالها ولكنه يتركنا حائرين هل هذه البنت هي ابنته العقاد أم أن العقاد كان لها في منزلة الأب، ويقفل القصة منصور بأن هذه الفتاة انتحرت في نفس يوم رحيل العقاد.
ولا نستطيع أن نذكر النساء في حياة العقاد دون ذكر الأدبية الشاعرة "مي زيادة" التي أحبها أساطين الفكر بجانب العقاد، كطه حسين والرافعي، ولما لا فهي فتاة جميلة العقل وافرة النضج، وتكتب وتجيد عدة لغات، في زمن كان القليل من الفتيات هم المتعلمات، ولكن علاقة العقاد بمي كانت تميل إلى الفتور، وأذكر أن طه حسين كان أول لقاء له مع معي عندما اصطحبه أحمد لطفي السيد من يده وذهب إلى حفل ثقافي كان به مي، فطلب طه من لطفي أن يصفها له، فأسهب لطفي في الوصف، فقال طه له يبدو أنك معجب بها يا لطفي، فرد عليه لطفي بكلنا هذا الرجل.
كتب العقاد رواية واحدة وهي "سارة" وقال أنها قصة حقيقية هو بطلها، ولكن لم يجب من تكون هذه السارة، وتنوعت التخمينات التي لم تصل إلى تأكيد، أن سارة هي "مي زيادة" والبعض قال أن سارة هي مترجمة تحمل اسم "أليس داغر" وقال آخرون أن سارة هي الفنانة "مديحة يسري" التي كانت من المترددين على صالون العقاد، ويحكي أنيس أن كانت هناك فنانة شابة، كانت من رواد صالون العقاد، وكان العقاد يعجب معه، ويضع صورتها على جدار غرفة نومه، ولكن الفتاة كانت تحب الفن، ودخلت هذا العالم وتخلفت عن العقاد وصالونه، فثار العقاد وطلب من فنان صديق له أن يرسم له لوحة عبارة عن فطيرة شهية ويحيطها الذباب، في إشارة إلى أن الفتاة أصبحت الآن شطيرة شهية ويلتف حولها الذباب، رفع العقاد صورة الفنانة الشابة ووضع مكانها اللوحة، وخلع حذاءه تحت الصورة حتى إذا سقطت اللوحة تسقط على حذاءه، وبعد انطاع طويل حضرت الفتاة فمسك يدها ودخل بها إلى الغرفة التي بها اللوحة، ففهمت وبكت وغادرت المكان.