حكاية
الأشرار لا يأكلون الجبن القريش.. الفصل الثالث
كانت السماء تمطر عندما خرجت من المقهى، احبكت الجاكت الذي ارتديه على جسدي، وسرت ببطء حتى لا تنزلق قدمي وأنا ادندن بكلمات فيروز حبيتك في الشتاء، كنت أسير وحيدا، طلبت من أكثر من صديق أن يأتي معي إلى المقهى ويكون رفيقي في سهرات الشتاء الطويل ولكن بلا جدوى، تنوعت الردود بين الجلوس على المقهى هي عادة الصعاليك والذين بلا عمل أو يمكننا أن نجلس في مكان راقي بدل الجلوس مع هؤلاء الأوباش، لم أكترث لكلماتهم المحبطة وقررت أن أخوض التجربة بمفردي، بحثت عن مطعما فاتحا في هذا التوقيت، فوجدت مطعم يعد الفول والطعمية، دخلت المحل وطلبت طعمية ساخنة فنظر لي البائع نظرة ماركة "طعمية سخنة إيه في الجو ده" ولكنه لم ينطق وتظاهر بعدم سماعه لكلمة ساخنة، وضع لي الطعمية في كيسا بلاستيكيا وتناول الفلوس في صمت.
كان المطعم بجوار المنزل فلم أمشي كثيرا بعدما خرجت من المطعم، ارتقيت السلم، أخرجت مفتاح الشقة من جيب الجاكت عندما وصلت إلى الشقة، اولجت المفتاح في كالون الباب ودخلت، كانت تنتظرني الصالة الكئيبة العارية جدرانها، أغلقت الباب خلفي ووضعت الطعام على ترابيزة صغيرة تتوسط الصالة، بدلت ملابسي وغسلت يدي واخرجت جهاز اللاب توب الخاص بي، وقمت بتشغيل فيلما على اليوتيوب حتى يسليني أثناء تناول الطعام، وهي عادة قديمة حيث لا يمكنني أن أتناول الطعام أو أنام بدون أن أشاهد أو أسمع شيئا، ربما لأني وحيدا أو محاطا بكل هؤلاء الذين جعلوني وحيدا، وهي الجملة التي أحبها للشاعر عباس بيضون وطبعتها على ورق مقوي ووضعتها فوق سريري.
فرغت من الطعام وقمت بإعداد كوبا من الشاي الذي حذرني من تناوله بكثره المقربين لي ولكن بلا جدوى، الشاي بالنسبة لي هو من أساسيات الحياة، لم أدمن شيئا أو عادة في حياتي كما أدمنت احتساء الشاي في الشرفة، حلمت كثيرا أن اتزوج فتاة تشاركني حب القراءة والشاي، وأن تجمعنا شرفتنا الصغيرة، نحستي بها الشاي وندردش عن القراءة والكتب، ولكن أنا الآن اقطن في الشقة بمفردي، لا وجود للفتاة الجميلة التي تعد الشاي وتشاركني أحلامي أو حتى يمكنني الجلوس في هذا الشتاء القارس في شرفتي الذي حتما سينتهي بنزلة برد، حملت كوب الشاي وجلست في سريري، سحبت كتابا من كتبي الموزعة في كل مكان داخل الشقة، كانت رواية "دون كيشوت"
هذا الفارس الذي أراد أن يغير الواقع والعالم بأفكاره وانتهى به الأمر بأنه يحارب طوحين الهواء.
عندما فرغت من القراءة كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، أخرجت هاتفي وبدأت في تصفح "الفيس بوك" هذا العالم الأفتراضي الذي أصبح مع الوقت عالم موازي أو يسبق العالم الواقعي في الأهمية، وجدت طلب صداقة جديدا من شخص لا أعرفه، ولا يضع صورة تعبر عن هويته، دخلت صفحته وقلبت في البوستات فعرفت أنه سيد أو الآسطي سيد، يسمى صفحته "تنسي كأنك لم تكن" وبالطبع لم اتعرف على شخصيته من هذا الاسم الغريب، حتى عثرت على صورة له برفقة ابنته التي يحتضنها ويبتسم، سيد قال لي أنه يحب الشعر فليس من الغريب أن يسمى صفحته بهذا الاسم الذي هو نص لمحمود درويش، تأملت صورة سيد وأنا أفكر في مصيري ومستقبلي القريب، هل من الممكن أن أحب فتاة وتتركني وتذهب إلى غيري كما فعلت فتاة سيد أو بعد التخرج من الكلية سينتهي بي الحال بالعمل على عربة ميكروباص وأنا أمقت هذه المهنة وليس لي خلق أو بال للتعامل مع مئات من الركاب كل يوم، شعرت بالغم من هذه الأفكار السوداء التي كانت تؤرقني دائما، قبلت طلب الصداقة واغلقت الهاتف ونمت.
في الصباح التالي كنت أول الحاضرين إلى "مخبز بيومي" استقبلني صاحب المخبز بابتسامة هذه المرة، ودعاني إلى الفطار معه وهو يقول أن من يحضر مبكرا يكون من نصيبه الفطار على حساب المخبز، أما الذي يتأخر فلا فطار له، وبينما نحن نفطر دخل علينا العجان أو الصنايعني كما يحب أن يناديه العاملين لأنه يرى أن لقب صنايعي يمنحه مكانة خاصة على عكس لقب "صبي" وهو لقبي لأن وضع العيش في الأكياس لا يعتبر صنعة، وهذا ما نقله لي أمس عندما دار بيننا حوارا خاطفا، ألقى علينا السلام وجلس معنا يفطر، سألني هل أعجبني العمل معهم في محاولة منه لخلق نوعا من الألفه بيننا، فأجبت بنعم وأشاد بي صاحب المخبز أيضا قائلا أنني ولد بتاع شغل وأنه يرجو مني خيرا، وجاء في النهاية "بولس" الخباز وكنا على وشك أن نفرغ من الفطار، فشيعه المعلم بيومي بجملة أن ناموسيته كحلي، ضحك خلف وصحح للمعلم أن بولس ولد عفريت ولم يؤخرة النوم كما يظن المعلم ولكن ما آخره هو نظرة للنساء العابرات في طريقة، حاكم بولس ابن حظ ويهوي النظر والسير وراء النساء وهذا ما جعله دائما في الخلف وختم كلامه بأن الجري وراء النساء لا يجلب غير الفضائح أو الفقر.
جاراهم بولس في وصلة الضحك، ولم يجلس لتناول ما تبقى من طعام ودخل يبدل ملابسه، لأن يجب أن يكون للعاملين في المخبز ملابس خاصة بالشغل كما أخبرني المعلم أمس، وطلب مني أن أحضر معي ملابس قديمة حتى تكون ملابس الشغل الخاصة بي، قمت وراء بولس وأنا أحمل كيس الملابس القديمة الذي احضرته معي من البيت، وفي الداخل رأيت بولس عن قرب، كان شابا يقترب من سن الأربعين، نحيل وطويل وشعره سائح، يضع القمص داخل البنطال ويبدو أنه يحب العياقة، وعندما وقعت عيني على أذنه اليسرى تملكني الرعب، كان الجزء العلوي من أذنه مقطوعا.