مقال
رواية مجدي سوس.. تخاريف تدعو إلى التفكير
قرأت في كتاب عن "التسويق" أن كان هناك كاتب أمريكي يريد أن يبرهن على أهمية التسويق في الأعمال التجارية والدعائية، فأنشأ موقع على الإنترنت لمطعم وهمي غير موجود في الواقع، وقام بعمل حملات دعائية مكثفة له، وراح يكتب ريفيوهات من حسابات غير حقيقية عن مكان المطعم الساحر ونظافة المكان وجمال الأطعمة المقدمة به وما إلى ذلك، وحتي لا يعرف العملاء كذبه عندما يطلبوا الحضور إلى المطعم كان يخبرهم أن الأماكن محجوزة لمدة ستة أشهر قادمة، وبذلك أصبح تقييم المطعم على مواقع التواصل الاجتماعي رقم "1" رغم إنه هو والعدم سواء.
يقول الكاتب الكبير "المنياوي" المنشأ لويس عوض في مذكراته إن المنيا "مقبرة" لا مكان لها للثقافة أو المثقفين، لذلك رحل إلى القاهرة وملأ الدنيا بكتاباته ومعاركة الأدبية والفكرية، ومثله عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي لو ظل في المنيا لأصبح شيخ كفيف يقرأ ما تيسر من القرآن في المناسبات المختلفة مقابل كسرة خبز أو القليل من النقود، والأخوين على ومصطفى عبد الرازق وغيرهم من أساطين الفكر والأدب والفن.
أشعر بالغضب دائما من المستوى الثقافي المتدني داخل محافظة المنيا، لأن القائمين على الثقافة بها لا ينشرون ثقافة ولا يبشرون بمعرفة، يقدمون أفكار رجعية متواضعة تجاوزها الزمن، لا جديد الآن وقبل عشر سنوات، هم نفسهم الوجوه التي تملأ المؤسسات الثقافية، ويوزعون الأدوار على أنفسهم ويمنحون بعضهم الألقاب أيضا، لذلك ولذلك كله لقد هجرت أنا وغيري هذه الندوات "الثقافية" التي لا تمت للثقافة بصلة إلا في اسمها وفقط، أو كما يقول فرانك فوريدي في كتابه الرائع "أين ذهب كل المثقفين؟"، إنه منذ فترة ليست بالقصيرة، وهو يشعر بالقلق إزاء الإحساس العميق بفقدان البوصلة الفكرية الذي يبدو أنه يعتري العديد من مؤسستنا الثقافية، وجامعاتنا، ومدارسنا، وأن الناس تستحق مناظرة فكرية على درجة رفيعة من الجودة من مؤسستنا الثقافية، كما يستحق هؤلاء بوصفهم جمهورا يحمل إمكانات كامنة كبيرة، درجة أكبر من الاحترام.
قبل
شهرين أخبرني صديق أن هناك مكان يقدم ثقافة غير تقليدية، وقبل أن يأتيه رأيي الذي
يعلمه مسبقا، واصل كلامه بأن يمكنني الحضور مرة واحدة خاصة أن المكان لم يأخذ شكل
الرسمية والعمل المؤسسي، وفي أحد المرات ذهبت معه ومن وقتها وإلى الآن وأنا من
الحاضرين الدائمين في هذا الصالون الثقافي، فهناك تقدم ثقافة مختلفة، ثقافة قبول
الآخر المختلف معه دون اتهامات بالهرطقة والتكفير ووابل النذير وما إلى ذلك من
خطابات كراهية وعداء للإنسانية، الجميع ينصت إلى الآخر حين يتكلم، لا مكان لدور
الوصاية أو الحجر أو التسخيف أو التشويش على رأي المتحدث، لأن الاختلاف هو جوهر
الحياة، أو كما قال فولتير إنه يمكنه أن يختلف مع رأي المتحدث ولكن على استعاد أن
يدفع حياته في مقابل أن يعبر المتحدث عن رأيه.
في
إحدى الندوات قام ميسر موضوع اللقاء في آخر الندوة بتوزيع نسخ من رواية هو كاتبها
على الحاضرين، ورغم إني على دراية ليست قليلة بجديد الإصدارات والوسط الثقافي إلا
إنني لم أسمع عن الكاتب أو الرواية شيئا من قبل، كانت الرواية تحمل اسم
"تخاريف" وكاتبها شاب اسمه "مجدي سوس" تصفحت بعض صفحات
الرواية سريعا فشعرت أنها رواية جيدة، من حيث الأسلوب وطريقة السرد، وهو تقييم غير
إحترافي أو كامل، ولكن هو في صالح الرواية على كل حال، ولا تهمني فكرة أن اسم
الكاتب والرواية مجهولين بالنسبة لي، لأن التجربة أثبتت أن هناك أقلام
وأصوات مبدعة ولكنها في الظل دائما لأنها غير محسوبة على مؤسسة أو شلة ما.
وفي
المنزل بدأت قرأت الصفحات الأولى من الرواية ووجدت نفسي افر صفحاتها دون توقف،
للوهلة الأولى اللغة المستخدمة في السرد هي لغة توصيلية، لا هي باللغة الصعبة
القمعرة ولا هي باللغة الركيكة، الأسلوب
سلس ولا يخلو من التشويق، فكرة الرواية إنسانية حالمة، محاولة لتبديد القبح
بالجمال حتى لو كان على صفحات الرواية، الأدب قادر على ذلك وتاريخ الأعمال الأدبية
التي كانت بمثابة ثورة إنسانية ضد العادات والتقاليد والتوسعات الاستعمارية طويل
وحافل، العادات التي أصبحت من المقدسات، وغير مسموح أو مطروح فكرة الاقتراب منها
بالتفنيد أو التشكيك، فهي حقائق لا تقبل الاقتراب وما إلى ذلك من هراء، أصبحت بحكم
التراكم جبال صلدة ودين جنب الدين وأحيانا تسبق الدين، ودين الإنسانية هو الحب كما
قال ابن عربي، في المجمل هي رواية غاية الجمال، وعزف منفرد في مديح الإنسانية ونبذ
الكراهية، خاصة إنها المحاولة الأولى في الكتابة، وأظن وبعض الظن ليس إثم أنها
تجربة موفقه، وأدعو القائمين على الثقافة أن يدعوا الكاتب وأمثاله من الشباب
الموهوبين وإقامة مناقشات حقيقية غير كرتونية حول أعمالهم وتجاربهم في الكتابة حتى
يعرفهم الجميع وينالوا من التشجيع ما يستحقوه، يبدو الطلب لا يخلو من بلاهة ولكن
لا يهم فالرواية كلها قائمة على حلم.