حوار
«مطبعجي بدرجة مؤرخ».. «عم أسامة» رحلة سنين وسط الكتب
يقول "إيمانويل كانط" أن الإنسان لا يتطور بالراحة، التجربة والمعاناة والمحاولة هي التي تطور روحه، ورحلة أسامة مكرم هي رحلة مليئة بالعثرات والمغامرات التي جعلت منها حياة ثرية تصلح لعمل روائي أو درامي، رأيته للمرة الأولى يجلس وراء مكتب في مطبعة، تبادلنا بعض العبارات النحيلة، كانت لقاءات خاطفة ولا تتجاوز الدقائق، ولكن في هذه المرة جلست بجانبه في إحدى الندوات الثقافية، راقبته طوال اللقاء، كنت منتبها لتعليقاته العفوية التي لا تخلو من ذكاء ورؤية ثاقبة، وفي نهاية اللقاء وبعد السلام والسؤال عن الصحة والأحوال، طلبت منه أن أجري معه حوارا فرحب بذلك وجلسنا في أحد الكافيهات وطلبنا قهوة وبدأنا ندردش على صوت الست أم كلثوم.
- في البداية.. ممكن تعرف القراء بنفسك؟
أنا أسامة مكرم، من مواليد
محافظة المنيا، أبلغ من العمر 53 عاما، متزوج ولدي ولد وبنت، أعمل حاليا في مطبعة.
- رأيتك أكثر من مرة دائم التردد على الصالونات الثقافية داخل
محافظة المنيا، ماذا تمثل لك هذه اللقاءات؟
تمثل لي الحياة، أنا أعشق
هذه اللقاءات، أبحث عنها دائما، الثقافة بالنسبة لي من أساسيات العيش، لا أتخيل
حياتي بدون كتب أو قراءة.
- كيف بدأت رحلتك مع القراءة؟
قبل سنوات طويلة، كان والدي
يحب القراءة، وكانت الكتب جزء من أثاث منزلنا، كان يشتري بعضها ويستعير البعض
الآخر، كان يمكنه بنقود قليلة الجلوس بجانب بائع الكتب وقراءة ما يحب بمقابل زهيد،
لذلك نشأت في أسرة تحب الثقافة والمعرفة منذ صغري واستمرت هذه الهواية معي إلى
الآن.
أحب القراءة في جميع فروع
الثقافة، لأن الثقافة غير مقتصرة على جانب واحد من المعرفة، ولابد من تنوع وتعدد
القراءة، أنا مثلا أقرأ في التاريخ الإسلامي كما أقرأ في التاريخ المسيحي، يتعجب البعض
من ذلك ويسألوني ما شأنك أنت بالتاريخ الإسلامي وأنت مسيحي؟ ولكن الإسلام أو
المسيحية أو حتى اليهودية ليسوا حكرا على فصيل أو جماعة ما، الحضارة الإنسانية
مجموع المعارف والذكريات التي تجمعت وتراكمت على مر الأجيال، والانتماء إليها
والاسهام فيها لا يكون الا بالتفاعل معها، القراءة الحرة لا تعرف الايديولوجية،
وعلى قارئ التاريخ أن يلتزم الحيادية قدر الإمكان، عليه أن يترك الايديولوجية خارج
غرفة القراءة، وأنا أقرأ حتى أعرف، والمعرفة نور، أقرأ حتى أخرج بتصوري ورؤيتي
الخاصة، لا أريد أن أكون مجرد مردد لبعض الخرافات، سمعت حكايات عندما كنت طفل وحتى
عندما كبرت مازالت الخرافات والأساطير تنتشر في الكون كالهواء، القراءة وحدها هي
من بددت كل ذلك.
- من الواضح أن حضرتك تحب القراءة في التاريخ أكثر من الفروع
الأخرى؟
بالفعل.. والسبب في ذلك
الأستاذ الذي كان يدرس لي مادة التاريخ في المدرسة، كان شخصا جميلا، يسوق لنا
التاريخ في شكل حكايات ممتعة، لا مجرد تواريخ ووقائع، كان يجعل التاريخ أشخاصا
أحياء يتحركون بيننا ويتحاورون معنا، والتاريخ يعيد نفسه يا عزيزي، لأن النفس
البشرية هي التي تصنع التاريخ، وهى مستمرة منذ البدء وحتى النهاية، وقراءة التاريخ
تمنحنا دروسا في الحياة من الصعوبة بمكان أن يحصل عليها الفرد في حياته القصيرة.
أنا حاصل على مؤهل متوسط،
يتعجب البعض عندما يسمعوا ذلك، أو عندما أقول رأيي في مناقشة ثقافية، وهى نظرة
قاصرة، لأن الثقافة غير مرتبطة بالمؤهل الدراسي، التعليم الرسمي أو المدرسة لا
يصنعوا مثقفا، هل العقاد كان خريج جامعة أو الجاحظ أو فيكتور هوجو؟ الثقافة يا
عزيزي هي رحلة بحث دائم عن المعرفة، بحث متواصل لا ينتهي بمجرد الحصول على شهادة
جامعية.
-حضرتك
ذكرت أنك تعمل في مطبعة الآن، منذ متى وأنت تعمل بها؟
منذ 30 عاما، مدة طويلة مش
كده؟ سأحكي لك حكاية، قبل أن أعمل بالمطبعة وبعد أن أنهيت الخدمة العسكرية، كنت
أعمل مساعد طباخ في مطعم مشويات بجانب المحطة، وكان أيامها نطهي الطعام على
"وابور جاز" وفي أحد الأيام هب في الوابور وتناثر الجاز الساخن على وجهي
وباقي جسدي، كنت أصرخ وأقول عيني عيني، وتجمع من يعمل بالمطعم حولي وحاولوا أن
يسعفوني، وكانوا يتعجبوا من قولي "عيني" فالجاز شمل كل جسدي لا عيني
وحدها، ولكن عيني هي التي أقرأ بها، هي بوابتي إلى عالم القراءة.
وماذا
فعلت بعدها؟
ظللت طريح الفراش لمدة
تجاوزت الشهر، كنت أذهب فيها إلى العلاج وأعود أرقد في الفراش، وبعدها قررت ألا
أعود لهذا العمل مرة أخرى، وكان هناك مهندس شاب يريد أن يفتح مطبعة ويحتاج إلى
مساعد له، فرشحني شخص لهذه الوظيفة، تعجيب في بداية الأمر فأنا ليس لدي خبرة أو
سابق معرفة بالطباعة ولكن ذهبت إلى لقاء المهندس الشاب على كل حال، ووجدت منه كل
ود ومحبة ومن وقتها وإلى الآن لم أخرج من المطبعة.
- هل تأثرت بشخصيات في رحلتك في الحياة؟
بالتأكيد.. ذكرت في حواري
بعض الشخصيات كوالدي وشقيقي ومدرس التاريخ والمهندس الشاب ولكن هناك شخصية أخرى
أدين لها بالفضل، وهى شخصية المهندس "أمير" صديق صاحب المطبعة، وجدت منه
كل محبة، فهو إنسانا نبيلا، وأذكر إن من حبي له تعلمت قيادة العجلة، فأنا حتى وقت
العمل في المطبعة كنت لا أجيد قيادة العجل، ووقتها قال لي المهندس
"أمير" همر عليك الأسبوع القادم وإذا وجدتك لا تجيد سواقة العجلة هزعل
منك، وأنا لا يرضيني زعله، فتعلمت سواقة العجلة في هذا الأسبوع مدفوعا بحبه، و
جمعني أنا وهو حب القراءة، كان دائما يشجعني ويهديني بعض الكتب، لذلك عندما تزوجت
وأنجبت ولدا أسميته "أمير" على اسم المهندس أمير.
ماذا يُمثل
لك أولادك؟
أولادي وزوجتي هم رزقي في
الحياة، هم سمائي الوردية، أو زي ما قال الخال الأبنودي "أنا ربنا جابني
الدنيا من غير ورث.. واداني منابي فيهم"
-في الأخير.. أكيد في رحلتك كونت مكتبة في منزلك
بالطبع.. مكتبتي تقع في
الدولاب، اتدثر بالكتب بدلا من الملابس بعض الأحيان، إذا كانت الملابس نرتديها حتى
لا نشعر بالبرد فالكتب نقرأها حتى لا نشعر بالجهل، وقال نجيب محفوظ" آفة
حارتنا النسيان" فآفة حارتنا هذه الأيام الجهل، والجهل بمفهومة الواسع لا
المحدود ألا وهو عدم إجادة القراءة والكتابة، أنا جمعت كتبي خلال سنين عمري الذي
تجاوز الخمسين بقليل، كنت أجمع ما تقع عليه يدي من كتب، هتجد عندي كتب تغطي جميع
فروع الثقافة، وبعضها نادر، كمان هتلاقي عندي قصاصات من الجرائد، كنت أقص المقالات
المهمة وأحتفظ بها في أرشيفي الخاص، واخترت اسم " اورشليم" لمكتبتي، كل
مساء أجلس إلى مكتبتي وأخرج منها كتابا وأقرأ فيه حتى منتصف الليل، وأترك كتبا في
عملي أقرأ فيها في وقت فراغي، فالكتاب صديق لا يخيب الرجاء أبدا.