مقال
زيارة جديدة إلى قبر العقاد.. الجزء الأول
في المرحلة الابتدائية أتذكر أننا كنا ندرس موضوع قراءة في اللغة العربية عن عباس محمود العقاد، الذي لم يحصل سوي على الابتدائية وفقط، ورغم ذلك ملأ الدنيا بكتاباته وكانت الصحف تتسابق حتى يكتب بها، هذا الصعيدي ابن أسوان الذي أثبت أن الشهادة الجامعية لا تعني بالضرورة أن يكون الإنسان مثقفا، رغم أن في زمن العقاد الابتدائية كانت تعادل بكالوريوس هذه الأيام في نظر الناس، العقاد لم يكتف بالعمل الروتيني الملل بشهادته، كان دائم التمرد، ولما لا وهو كان يقرأ كتابات عبد الله النديم ويحب سيرته، وكان للنديم هذا الثائر وصوت الثورة العرابية جريدة كانت تحمل اسم "الأستاذ" فكتب العقاد عندما كان طفلا مجلة حائط وأطلق عليها "التلميذ" كمحاكاه لجريدة أستاذه النديم.
أعمل بجانب الكتابة في مجال الكتب، وهو مجال يجعلني على دراية بماذا يقرأ المصريين؟ وللأسف العقاد غير مقروء من فئة الشباب، ومن المثير للضحك والبكاء أيضا كما قال المتنبي أنني أجد أشخاص يرددون أن عباس سُمي بالعقاد لأن أسلوبه معقد، وبالتأكيد هذه خرافة ولا تمت للحقيقة بصلة، ويرجع لقب العقاد كإشارة إلى عمل العائلة التي كانت تعمل في عقد الخيوط والحرير، والفئة التي تقرأ العقاد لا تقرأ له في الغالب الأعم إلا العبقريات، وهي سلسلة كتب تراجم تناول فيها سير بعض الأنبياء والخلفاء الراشدين، رغم أن العقاد ليس كاتبا إسلاميا في الأساس، ولكن هو وغيره كطه حسين وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل، كتبوا كتابات إسلامية كنوع من الكتابة الضد، والرد على الكتابات التي لا تخلو من خطابات كراهية وإرهاب فكري، فجاءت كتاباتهم كمحاولة للتصدي لهذه الأفكار أو بعبارة أخرى لعقلنة الكتابات الإسلامية، رغم أن العقاد كتب ما يزيد عن الـ 90 كتابا ما بين الشعر والرواية والنقد والتراجم، وعندما كتب أيضا ثنائية المسيح ثارت عليه بعض الأقلام المسيحية وهاجمت الرجل، لأن ممثلي الدين أيا كان سماوي أو حتى غير سماوي هم بشر عاديين، منهم المنفتح على الآخر ومنهم أصحاب القلوب الأسمنتية والعيون التي لا ترى إلا ما تعتقده أو تتصوره.
عندما جاء العقاد إلى القاهرة أقام في غرفة على سطح إحدى البنايات، وتراكم عليه إيجار الغرفة، لأن فلوسه كلها كانت تذهب على الكتب، وكانت بنت صاحب المنزل تعجب بالعقاد لذلك حالت دون طرده من السكن، لم يلتفت لها العقاد، ولكن هذا لا يمنع الفتاة من حمل الصواني العامرة بالطعام التي كانت تأخذ طريقها إلى غرفته، ولكن عندما ضاف عليه الخناق بين صاحب منزل يطالب بالإيجار وفتاة تطارده، قرر أن يحمل ما يقدر عليه من الكتب وفر هاربا.
عرف العقاد طريق السجن كغيره من معاصريه، عندما حاول الملك أن يتحايل على الدستور كتب العقاد مقال بعنوان "نادي العجول" في إشارة إلى الملك وحاشيته، فكان مصير العقاد السجن لمدة ستة أشهر بتهمة العيب في الذات الملكية، وعندما قال جمال عبد الناصر في خطاب له أنه هو من منح الشعب الكرامة فهاجمه العقاد لأن الشعب المصري يعرف الكرامة قبل كل هؤلاء، ولما قامت الدنيا ولم تقعد على طه حسين وكتابه "في الشعر الجاهلي" وتم مناقشة هذه القضية في مجلس النواب الذي كان العقاد أحد اعضائه، وقف العقاد ودافع عن طه حسين رغم انهم كانوا على خلاف دائم، ولكنه كان ثاقب النظرة ويعلم أن إذا حوكم طه حسين بسبب كتاب فمن الجائز بل من الأكيد أن يأتي عليه يوما ويحاكم هو على كتاب أو مقال نشره وبذلك تكون رده حضارية تعود بنا إلى العصور الوسطى في أوروبا حيث الظلام ومحاكم التفتيش، لذلك ولذلك كله وقف العقاد شامخا مدافعا عن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين ورفض فكرة محاكمة الرجل وقال يمكنهم أن يألفوا كتابا أو عشرة يردوا فيهم على العميد وليس الرد يكون بالزج به في غياهب السجون.