جاري تحميل ... الفيتشر

مدونة المعافرين في الأرض

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

حكاية

الأشرار لا يأكلون الجبن القريش.. الفصل الثاني



المرة الأولى التي دخلت فيها المخبز كنت أبلغ  من العمر اثنتا عشر عاما، صبي نحيل يتخبط في خجله،  فرغت من إمتحانات الصف السادس الابتدائي ونحجت، استقبلي على عتبة المخبز رجل ضخم الجثة، متجهم الوجه، وبصوت أجش سألني "عايز إيه؟" بصوت مرتعش أجبته "عايز أشتغل .. عندك شغل؟" مسحني بعينه من أعلى رأسي إلى اخمص قدماي وأشار لي أن أتبعه، سرت خلفه بخطوات وئيدة، دلفنا إلى داخل المخبز، وبغته توقف أمام كنبة بلدي مغطاه بحصيرة ويستقر عليها ركام من العيش الفينو وقال: "شغلك هنا هتعبي العيش ده في أكياس، كل كيس هتحط فيه 10 أرغفة.. مش أنت بتعرف تعد؟" أشرت برأسي إيجابا فواصل " هترص 5 أرغفة من تحت و 5 من فوق.. هتخليهم في ضهر بعضهم يعني" ثم تركني خلفه ومضى إلى الداخل. 

جلست على كرسي خشب يقترب من الأرض، تناولت الأكياس وبدأت في رص العيش بدقة وبطء، وبدأت اتأمل المخبز بين لحظة وأخرى، للوهلة الأولى مساحة المخبز كبيرة، غرف متداخلة، الجدران تساقط من عليها الطلاء وعلاها "الهباب" والأرض بلاطها شديد القدم وتأكلت بعض أجزاءه، الإضاءة خافتة، ويوجد فاترينة عرض في واجهة المخبز تحتوي على بقسماط شرائح وصوابع، ويستقر بجانبها كرسي عليه صاج فطير مغطأ بكيس نايلون، يوجد أيضا ميزان أعلى طاولة، وفي مؤخرة المخبز فرن، فرن بلدي وقوته "المازيوت" جدرانه تكاد تتساقط، وأمامه نصبة من الرخام يُخرج عليها الفران الصاجات من الفرن ويقوم آخر بحملها بقطعة قماش ووضعها على الأرض لجعل النصبة فارغة دائما. 

وبينما عيني تتنقل بين تأمل أرجاء المخبز وتعبئة العيش في الأكياس، سمعت صوت يأتي من خلفي قائلا: " لا شد حيلك، متنفعش اللكاعة دي هنا، شَهل شوية، السرعة هنا مطلوبة، لازم تخلص كل العيش اللي قدامك ده قبل ما يتهوي العيش اللي طلع من الفرن ده، عشان هيتفرش على الكنبة هنا" قلت هامسا "حاضر" وبدأت في تعبئة العيش سريعا خشية ألا يطردني الرجل، مضت الساعات ثقيلة رتيبة وتسرب إلي يدي التعب، وتفصد العرق عن جبيني من شدة الحرارة، ثماني ساعات بلا توقف، عبأت مئات الأكياس بلا كلل أو فرصة للراحة، وكان يأتيني صوت الرجل مشجعا بين الفينة والأخرى. 

وفي نهاية اليوم وقفت خارج المخبز أمام الرجل صاحب الصوت الأجش والتعب يبدو علىّ، نظر إلى وسألني: "ألا صحيح انت اسمك إيه؟" قلت: "أحمد" قال مازحا: "من النهاردة اسمك أحمد العيّاش؟" ولما نظرت إليه حائرا تعالت ضحكاته وأخرج من جيبه نقود وراح يعدها ثم وضع في يدي ثلاث ورقات من فئة الجنيه وورقة من فئة النصف جنيه قائلا: " ده مصروفك" سألته مستفهما " مصروفي! هو أنت بابا؟" تعالت ضحكاته ثانية وقال" بابا مين الله يخرب بيتك.. وطي صوتك.. الولية مراتي بتنشر في البلكونة اللي فوقنا ولو سمعتك بتقول بابا دي هتقرأ النعي بتاعي في أهرام بكرة" قلت: "أومال إيه مصروفي ده يا عمو؟"

 قال مبتسما - ويبدو أن كلمة عمو اعجبته- " مصروفك يعني اليومية بتاعتك، يعني أجرتك كل يوم، دي اللغة اللي بنستخدمها هنا" وتابع كلامه" أنت مصروفك هيبقى أربع جنيهات في اليوم" وقبل أن يُكمل كلامه رحت أعد النقود مرة وأخرى وهو يرمقني بنظره وفي نهاية الأمر قلت له :" بس دول تلاته جنيه ونص بس مش أربعة، أنا بعرف أعد كويس على فكرة" فتر ثغره عن ابتسامة وقال:" شاطر.. بس أنت عجبتني يا أبو حميد، عشان كده كل يوم هخصم منك نص جنيه" قلت في داخلي هذا الرجل لابد أنه مخبولا كيف عجبته ويخصم مني نصف جنيه، وقبل أن تنزلق الكلمات من فمي عالجني الرجل قائلا: " أنا هحجز النص جنيه ده عندي عشان تيجي تاني.. بربطتك بالمكان يعني، عشان أنت شاطر، فالنص جنيه ده متشال لك في الحفظ والصون" ودعته ومضيت على أن أحضر غدا في الصباح الباكر لأن الرزق يحب الخفية وأن اليد البطالة نجسة كما قال لي، سرت في الشارع أتقافز فرحا، أنا معي في جيبي ثلاث جنيهات ونصف، أصبحت من الأغنياء وعلية القوم، مصروفي في البيت نصف جنيه بينما مصروفي في المخبز ثلاث جنيهات ونصف.. لما لا يبدّلوا بابا؟ 

وراحت تتكاثف الأفكار في رأسي، مرة أُفكر في انفاق النقود وأنا في طريقي إلى المنزل وابتاع كل ما أحلم به، ومرة أخرى أُفكر في ادخار النقود لمدة أسبوع، وقتها سيصبح معي مبلغا محترما يمكنني أن أفعل به أي شيئا، ومرة ثالثة اتحسس جيبي خشية أن تكون النقود قد سقطت منه، نفضت كل هذه الأفكار من رأسي عندما برز سؤال ينتظرني عند عودتي للمنزل، سؤال أين كنت طول اليوم؟


الوسوم:

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *