يوم في سوق الخضار.. مقال لـ إسلام كمال
أتجولُ كعادتي في السوق، تضرب أُذُنيَّ نداءات الباعة يروجون لبضاعتهم، تعلو الأصوات، يختلط بعضها ببعض ويتداخل دون رابطة تجمعها: "ملوخية حمام"، "خيار لوبيا"، "طماطم مجنونة"...
لم أكترث أول الأمر؛
ابتاع خضار وأمضي، ما للسوق وأسئلتي الوجودية؟! تدريجيًا بدأ الموضوع يؤرقني، وعبثًا
بدأت أبحث عن تفسير يربط الملوخية بالحمام والخيار باللوبيا، وصلت في النهاية إلى تبرير
يجمع بين الملوخية والحمام، ربما اقترن طبخ الملوخية بالحمام في الماضي، لأن عمل الملوخية
الآن يقترن بالأرانب، كل شيء جائز، في الماضي كانت الملوخية طعام الملوك والآن طعام
الملوك والصعاليك معًا.
أعادتني ذكرى الأرانب
إلى الماضي وقبل سنة بالتحديد، عندما حضرت ندوة بالصدفة كان يُقيمها رجل تجاوز الستين
بقليل، كانت أسبوعية، مفادها أن يقرأ الرجل كتابًا من اختياره، ثم يجلس إلينا ويقص
ما جاء في الكتاب، ولا ينسى أن يمارس علينا دور الأب وينقل لنا خبرته الحياتية الكبيرة،
مجرد ثرثرة وهراء، وكانت المسابقة التي يقيمها مندوحة لنا لاحتمال ثرثرته، عبارة عن
أسئلة عامة، ومن يُجيب على سؤال يأخذ كتابًا هدية، ومن السفه أن أذكر أنه أرجأ المسابقة
إلى آخر الندوة؛ وإلا كان الجميع بعد حصولهم على الكتاب سيختلقون ألف عذر ليخلعوا تاركين
الرجل المسكين وحيدًا، كانت الكتب بمثابة تعويض أو بدل ثرثرة.
في إحدى المرات
كان السؤال: لماذا لا يأكل اليهود الأرانب؟ وبعد أن لم يجد سوى الصمت المطبق، كصمت
المقابر، تبّرع هو بالإجابة قائلًا: "لأن الأرانب تحيض مثل المرأة!" لم أفعل
ما فعلته البنات الحاضرات من وضع اليد على الفم، أو ضرب الصدر باليد، وما إلى ذلك من
التصرفات العجيبة تعبيرًا عن الصدمة، فأنا لا أطيق الأرانب أصلًا.
رغم ما حدث، لم
أخرج صفر اليدين، كسِيف البال، بل خرجت ويدي مطبِقة على كتاب بفضل أم كلثوم التي أجبت
سؤالًا بشأنها (متشكرين يا ست)، ولعل الله قد ترفق بالرجل لأني لولا الكتاب في يدي
لكانت تطبق على شيء آخر كزمارة رقبته، بسبب الساعة التي سرقها من عمري وشغلها بالهراء.
يمكن ربط الخيار
باللوبيا على اعتبار أن الخيار نحيل مثل اللوبيا، وكلما صغر حجمه كان أفضل وازداد سعره،
بينما الطماطم مجنونة لأن سعرها غير مستقر، تارة بـ10جنيهات وتارة بجنيه واحد.
حمدتُ الله أنيّ
توصلت إلى تفسير حتى ولو كان خاطئًا، لكن دماغي "الطاقّة" التي لا تكف عن
فرز الأسئلة صدمتني بطرح سؤال آخر: لماذا الخيار اسمه خيار؟ لمه لا يكون طماطم مثلا؟
وهل سُميت اعتباطًا أم لها اصل؟!
مررتُ ببائع تتطاير
كلماته مختلطة بلعابه بـ"بلح زغلول يا بلح".. "طايب على أبوه يا بلح"،
طرمني ابن الصرمة بصوته الجَهْوَري القبيح، لعنته في سري، وما لبثت أن شكرته؛ أرشدني
هذا الأبله إلى الإجابة!
في الثلاثينات
من القرن المنصرم نُفي سعد زغلول خارج مصر، وأصدرت السلطات الإنجليزية بيانًا بحظر
تداول اسم سعد زعلول في وسائل الإعلام المنشورة والمسموعة، لأن وقتها لم يكن قد دخل
التلفاز مصر بل عرف طريقه إليها في الستينيات.
سعد كان بطلًا
قوميًا آنذاك، فلجأ المصريين إلي المواربة والتحايل فكانت أغنية "يا بلح زغلول"
اشارة إليه وكلماتها: "يا بلح زغلـــــــول/ يا حليوة يا بلح/ يا بلح زغلـــــــول/
يا زرع بلدي عليك يا وعدي/ يا بخت سعدي زغلول يا بلح/ عليــــــك أنــادي في كل وادي/
قصدي ومرادي زغلول يا بلح/ الله أكـــــــبر عليك يا سكر يا جابر اجبر عليك يا بلح/
ما عنتـش أبكي وفـيه مدير/ مين بس ينكر زغلول يا بلح/ يا روح بلادك ليه طال بعادك/
تعا صون بلادك زغلول يا بلح/ سعد وقالي ربي نصـــرني وراجع لوطني/ زغلول يا بلح يا
بلح زغلول"
كلمة "زغلول"
تُطلق على الشيء صغير الجحم، لذلك يقال على الحمام الصغير: حمام زغلول، البلح الزغلول
كذلك صغير الحجم، وهنا برز سؤال: هل هذا البلح اسمه هكذا قبل نفي سعد واستغل المصريون
الاسم لتأييده ومؤازرته في منفاه عبر الأغنية أم سُمي البلح زغلول بعد نفي سعد؟
ولأن تاريخنا لم
يكتبه إلا أبالسة تزييف الحقائق، ولأنه لم يصلنا منه سوى أنصاف الأفكار وأنصاف المعلومات،
ولأن المصريين دائما يرددون جملة سعد الأثيرة "مفيش فايدة"، تكشف لنا الأيام
عن أن الجملة كانت لعدلي يكِن لا سعد زغلول، حيث شملت المفاوضات مع الإنجليز المندوب
البريطاني وسعد وعدلي، وكان سعد صعب المراس فطلب المندوب البريطاني من عدلي أن يجعل
سعد مرنًا قليلًا، فجاء رد عدلي بـ"مفيش فايدة".
ليست هي المرة
الأولى والوحيدة، فعندما تعاون موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب مع كوكب الشرق أم كلثوم
بأمر من جمال عبد الناصر، ولحّن لها أغنية "أنت عمري"، حضر عبد الوهاب الحفل
وسط الجمهور وبعد وصلة عزف من عازف يُدعى "عبد العظيم" نهض عبد الوهاب من
على مقعده وصفّق قائلًا "عظمة على عظمة" والتقط الجملة أحد الحاضرين وأضاف
إليها "يا ست" لترتبط بالست عبر الأجيال وإلى الأن!