جاري تحميل ... الفيتشر

مدونة المعافرين في الأرض

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

حكاية

مثقفون على فيض الكريم


كتب: إسلام كمال

دائما كنت أحب أن أعرف طقوس وعادات الأدباء حول القراءة والطرق التي صنعت ثقافتهم الواسعة والغزيرة، وكنت أحب جملة بورخيس القارئ الأعظم في رأيي والذي كان يفتخر بأنه قارئ جيد قبل كونه كاتب، وهي عملية مركبة بالضرورة، والجملة مفادها أنه تخيل الجنة على شكل مكتبة وهي جملة أحيانا تثير حنق وغضب السامع عندما أقولها أمامه لأنه يرى إنها لا تخلو من تجديف وهرطقة، وسعدت وتفاعلت مع حكاية الأديب الكبير جمال الغيطاني الذي حكي في أحد كتبه أنه كان من أسرة فقيرة ولا تتحمل ميزانيتها المحدودة أو المعدمة أن شئت أعباء شراء كتب، التي كانت في فترة ما فعل يقوم به طبقة النبلاء الغير مطحونين بفكرة العمل وجمع ما يسد الرمق من الأموال الضئيلة التي تغني عن سؤال اللئيم وصحبة الأنذال، فكان جمال الغيطاني يذهب إلى كشك الشيخ تُهامي الكائن بجانب الأزهر ويدفع له قروش معدودة مقابل أن يجلس بجانبه على الرصيف ويقرأ طوال اليوم، وبهذه الطريقة قرأ الغيطاني مئات الكتب من كتب التراث التي صنعت ثقافته وشكلت وعيه.

بحكم عملي في مجال الكتب وبالتحديد الكتب القديمة والنادرة ودائم التعامل مع القراء يمكنني أن أحدد من يقرأ بنسب متفاوته بين طبقات المجتمع المختلفة، واستطيع أن أقول أن حوالي 70% من القراء هم من الطبقة المتوسطة، والغريب أن لديهم حماس منقطع النظير ناحية الكتب والقراءة وعلى استعداد أن يدفعوا أخر جنيها في جيبهم في مقابل الحصول على كتاب عجبهم، وشاءت الأقدار أن يحدث في يوم ثلاث مواقف لأشخاص مختلفين في الثقافة والموقع الجغرافي ولكن جمعتهم المعرفة وحب الثقافة. 

رأيت الشخص الأول في صباح يوم قائظ الحرارة، كان يحجز كتب لدي عن تاريخ مصر والآثار في العصرين اليوناني والروماني، والذي جعلني أتوقع أنه طالب في كلية الآداب قسم تاريخ، كان قد حجز الكتب عن طريق المتجر الإلكتروني الخاص بي، واتفقنا سويا على أن نتقابل عندما أحضر من المنيا إلى القاهرة ويحصل على الكتب، وعندما بلغت القاهرة وأرسلت له رسالة صوتية عبر ماسنجر أبلغه فيها عن موعد ومكان تسليم الكتب، جاءني رده بأن أتحدث باللغة العربية الفصحى لأنه لا يفهم مني شيئا، ولذلك توقعت أنه ليس مصريا وربما من إحدى الدول العربية التي لا تعرف العامية المصرية، وتقمصت دور سعيد صالح في مسرحية العيال كبرت عندما كان يقرأ الخطاب الغرامي التي كتبته عشيقة الأب بعربية ركيكة، وأعدت الرسالة هذه المرة بالفصحى وأنا اتحسس اللغة وأضحك، وعندما قابلته عرفت أنه شاب من أندونيسيا يدرس في جامعة الأزهر، ويعمل في القاهرة حتى يستطيع أن يوفر مصاريف دراسته وشراء كتبه، نقدني المبلغ المتفق عليه ومضى سريعا حتى لا يتأخر عن موعد عمله حتى لا يوقع عليه صاحب العمل غرامة ليس لديه رفاهية أو مساحة لتحملها. 

الشخص الآخر كان راسلني قبل أيام يريد أن يحصل عن كتب تخص التصوف، واحضرت له مجموعة من الكتب معي وتواصلت معه، أخبرني أنه في طريقه من طنطا إلى القاهرة، وأعتذر لي عن تأخره، انتظرته في وسط البلد وأنا جالس على مقعد خشبي أمام بائع عصير شهير كنت قد طلبت منه كوبا ارطب به على قلبي في هذا الحر الغاشم، تقدم مني شابا تعرف على من خلال الكتب التي أحملها، عرفني بنفسه بكلمات نحيلة في بداية الجلسة، وبدأ في فرز الكتب واختيار ما يعجبه رغم أنه كان يحجز كل الكتب، ولكن قال لي إنه مبتدئ في القراءة عن التصوف لذلك سوف يختار الكتب التي تصلح أن تكون مدخلا ومفتاحا إلى هذا العالم، وطلب مساعدتي، فنظرت حولي يمينا ويسارا حتى لا أرى سلفي يرفض الصوفية ويكفر من يعتنقها أو يقرأ عنها، وحمدت الله أن الجالسة بجوارنا فتاة جميلة ترتدى ملابس خفيفة تكشف عن ذراعيها كاملة ومفرق نهديها، وضحكت في داخلي وأنا اردد أن هذه الفتاة متصوفة بالفطرة ومتجردة وزاهدة بالتجربة، جري بيننا نقاشا خفيفا عن أنه تخرج من الكلية وعمل في الغردقة لمدة خمس سنوات، وكان يشرب السجائر والحشيش، ولكن في لحظة تحول قرر ألا يفعل هذه الأمور ثانية، وأن يتوب إلى الله، ويقرأ في الصوفية التي ترقق القلوب وتجعل كل الأمور سواء، وعندما فرغ من كلامه واستقر على الكتب التي سيحصل عليها، أبلغني أنه في طريقه إلى زيارة السيدة زينب، لأنه لا يصح أن يأتي إلى القاهرة دون أن يطرق بابها، وودعني بحفاوة وانصرف. 

وفي نهاية اليوم وبالتحديد في سور الأزبكية رأيت بطلة حكايتنا الثالثة والأخيرة، وكنت هذه المرة مراقب وفقط، كانت ترتدى ملابس بسيطة وتحمل على ظهرها حقيبة، ويبدو أنها فتاة قروية، وقفت عند بائع كتب وبدأت في اختيار الكتب التي تروق لها، وبدأت بكتاب ثم آخر حتى أصبح حمل كتب يتجاوز العشرون كتابا، وعندما أخبرها صاحب المكتبة أن الكتب بمبلغ ما وبدأت البحث عن المبلغ في جيوبها فلم تجد سوي نصفه، وقفت حائرة زائغة العينين أمام البائع الذي قال لها أنها يمكنها أن تحصل على نصف الكتب وممكن أن تعود مرة أخرى وتحصل على الباقي، فلم يعجبها رده أو لم تثق في منطقه، وقفت شاردة مفكرة للحظات ثم فتحت حقيبتها واخرجت منها كيسا به "قرص" - القرص التي تُباع في المخابز وتخرج رحمة ونور- وتحولت فجأة إلى بائعة محترفة، وقفت في منتصف الطريق وراحت تنادي بصوت انثوي رقيق: "معايا قرص فلاحي.. قرص طازة صناعة بيتي.. الـ 3 قرص بعشرة جنيه فقط.. دوق قبل ما تشتري" وبدأت الناس تتجمع حولها وتذوق وتشتري، البعض كان يمر بالصدفة ولم يراقب القصة من أولها ولكن وقفوا وتذوقوا واشتروا منها، ووجدت نفسي من بين المشترين وبداخلي سعادة غير متناهية، سعادة بحسن تصرف هذه الشابة ضئيلة الحجم ناضجة العقل، الجادة والصارمة والتى لم تستخدم انوثتها في محاولة للسيطرة علي البائع والحصول على كل الكتب بالمبلغ الذي معها وفقط، و أيضا معجبا بصلابتها وعدم استجداء صاحب المكتبة لكل تحصل على الكتب بنقودها القليلة، هي فتاة جميلة وشامخة ومثقفة، ثقافة جعلتها تحولت بغتة إلى بائعة متجولة حتى تحصل على ما تحب من الكتب، وفعلت.
الوسوم:

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *