حكاية
الأشرار لا يأكلون الجبن القريش.. الفصل الرابع
نشأت على جملة أن كلية تجارة هي كلية الشعب، ولم أجد تفسيرا منطقيا لهذه الجملة، لأنها ليست كلية يدخلها الجميع كما يظن البعض، بالإضافة أن في المدينة التي أعيش فيها شارع يحمل اسم "التجارة" وهو من الشوارع القديمة التي لها تاريخ في المنيا، شارع يضم بائعي القماش والسجاد والذهب، فظننت أن خريج كلية تجارة في النهاية سيكون بائع في هذا الشارع مثل هؤلاء، لذلك لم أكن أتخيل إنني في يوم هكون من طالبي هذه الكلية، ولكن شاءت الأقدار أن أدخل هذه الكلية والتي كانت في محافظة أخرى غير محافظتي، كانت في محافظة بني سويف، وهي المحافظة التالية لمحفظتي في إتجاه الشمال، بعد أن قال لي البعض أن كلية تجارة أسيوط صعبة والحضور شرط أساسي بها وعقول أهل أسيوط أكثر تشددا من المنيا وبني سويف، وكنت أستغرب كثيرا من أن المنيا في ذلك الوقت لا توجد بها كلية تجارة أو حقوق رغم أن مساحتها وعدد سكانها أكثر من بني سويف، ومر بخاطري ما فعله عميد الأدب العربي طه حسين عندما قام بتأسيس جامعة أسيوط في عهده، طه حسين الذي أحببت كل ما كتبه على الرغم من لعن سلسفيله من قبل السلفيين المتشددين، رحمة الله على الذي نادي بمجانية التعليم الجامعي وقال أنه كالماء والهواء.
كانت مادة الرياضة هي أول محاضرة لي في الكلية، عندما دخلت المدرج تبددت المشاهد التي كنت أراها في الأفلام الأبيض وأسود أو حتى الألوان، حيث كان الاختلاط بين الشباب والبنات في المدرج أمر طبيعي، ولكن هنا الشباب يجلسوا في يمين القاعة والبنات في اليسار، جلست في منتصف المدرج وبعدها دخل دكتور المادة الذي رحب بالجميع متمنيا لنا النجاح، وقبل أن يبدأ في الشرح قال محذرا أن أي شاب سيقوم بتصوير فتاة من المدرج المجاور فسوق يرسب في المادة، شعرت أنه يتحدث إلى أطفال في الحضانة، من مخبولا سيقوم بتصور فتاة تجلس أقصى اليسار ولماذا، لم أسمع كلمة أخرى من كلامه، أخرجت رواية "مذكرات في بيت الأموات" لدوستويفسكي وبدأت القراءة فيها، هذه الرواية التي كتبها عن فترة سجنه في روسيا، وهو من الكتّاب المفضلين لي، وكان حكم عليه بالإعدام لأنه يعارض النظام وقبل تنفيذ حكم الإعدام بلحظات خُفف الحكم إلى السجن وفقط.
بدأت اتبادل بعض الكلمات مع بولس الخباز ولكن بحذر لأني لم اتحرر من مشهد اذنه المقطوعة، كنت أحمل له "صاجات" العيش من المعجن واناولها له يضعها في الفرن، وكان على ألا اخبط الصاج في الحائط أو أي شئ أمر به في طريقي إلى الفرن، لأن لو فعلت ذلك يهبط العيش ولا يصلح للخبيز، وعندما يخرج العيش من الفرن اقوم بحمله على خرقة بالية وأضعه على الأرض في صفوف قائمة حتى يتهوي استعدادا لوضعه في الأكياس وعرضه للبيع، وكان المخبز في مكان نائي في إحدى الحارات وبالتالي هو ليس بجانب موقف أو في شارع رئيسي يكون به الحراك كبيرا وعملية البيع يسيرة، لذلك كان صاحب المخبز يعتمد على التوزيع في فكرة البيع، وهي مهنة أخرى داخل المخبز، ويقوم بها أكثر من شخص، يوفر المعلم بيومي مجموعة من الدرجات الهوائية يحمل عليها الأشخاص القائمين على التوزيع العيش ويقوموا بتوزيعه على محلات البقالة في المحافظة، ويحصل الموزع على نسبة 10% من قيمة المبيعات، أعجبتني مهنة الموزع وحلمت أن أكون موزعا يوما ما، حتى أحصل على دراجة هوائية والف بها في الشوارع كأنها نزهة لا عمل مقيت أظل أقف فيه طوال اليوم واتحمل هذه الحرارة الخارجة من الفرن.
جاءت اللي المخبز امرأة تترفل في جلباب أسود بلدي وتنتعل شبشبا متواضعا وتحمل علي رأسها صينية كيكة، تقدمت إلى بولس الخباز الذي يبدو أنه يعرفها جيدا لأني رأيت شبح ابتسامة على وجه عندما رأها، رحب بها بولس وقال عليها عينيا عندما طلبت منه أن يسوّي لها الصينية بعد ما حلفته بروح أمه والعدرا بأن يسويها بضمير، وعندما مضت السيدة على أن تعود بعد ساعة، أخرج بولس طبقا صغيرا وقام بسكب جزء من عجين الكيكة في الطبق، وبعدها بدأ في رج الصينية حتى يستقر العجين بداخلها ويصبح متساوي السطح حتى لا تظهر خديعته، ثم ادخل الصينية والطبق إلى الفرن، وعندما خرجوا كان اعد كوبا من الشاي، وقام بتناول الكيكة التي وضعها في الطبق مع الشاي وحبس بسيجارة، كانت المرة الأولى التي أرى فيها هذا المشهد في حياتي، وعلمت لماذا لم يكن بولس حريصا على فطار المعلم بيومي لأنه يحصل على الفطار من طرق أخرى.