جاري تحميل ... الفيتشر

مدونة المعافرين في الأرض

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

حكاية

الأشرار لا يأكلون الجبن القريش.. الفصل الأول



كان لقاءنا الأول على مقهى شعبي في إحدى الحارات الضيقة، رأيته يجلس على الكرسي ويضع رجلا على أخرى، صفق بيده طالبا القهوجي كأنه صاحب المقهى، وما لبث أن جاء القهوجي وهو يحمل على يده صينية معدنية متأكله أطرافها، ويستقر عليها كوبا من الشاي الثقيل، بينما يحمل في يده الأخرى شيشة، وضع الصينية على الترابيزة الخشبية الملخلخة، ثم جلس القرفصاء على الأرض، سحب ماشة الشيشة وراح يقلب في الحجر حتى أشار له الجالس بالتوفق، قام القهوجي وغاص في المقهى يلبى طلبات الزبائن، أيقنت في داخلي أن الجالس من رواد المقهى القدامى، للوهلة الأولى هو رجل خمسيني، زحف الشيب إلى ما بقى من شعره بحكم السنين، يترفل في جلباب زيتي اللون، وينتعل شبشب جلد سميك، بشرته تميل إلى السمرة، وله شارب ضخم، ومربوع القوام، كنت اختلس إليه النظر بين الفينة والأخرى، حاولت أن اخمن عمل الرجل، تخيلته فتوة من فتوات روايات نجيب محفوظ التي كنت اقضي معها أمتع الأوقات، ومرة أخرى ظننته جزارا عندما كان زبائن القهوة والعابرين بها يلقون عليه السلام مقرونا بكلمة معلم، حتى دخل المقهى صديقا له، وبعد السلام والسؤال عن الصحة والأحوال، بدأوا يتجاذبون أطراف الحديث عن أسعار الخضار وبالتحديد الطماطم وهنا علمت أنه معلم في السوق. 

انصرف نظري عنه في أنحاء المقهى، حتى تعالت الأصوات من حولي، كان مصدر الصوت يأتي من ترابيزة المعلم "حسن" بائع الطماطم، كان يتشابك مع القهوجي حول حقيقة الحساب الذي عليه، القهوجي يقسم أن المعلم عليه مبلغ عشرة جنيهات ثمن المشروبات المؤجل، بينما المعلم يرفض هذا الحساب الذي يري به بعض التلاعب وأنه رجلا ابن سوق ولا تنطلي عليه مثل هذه الالاعيب، وأن المبلغ المتراكم عليه هو ثماني جنيهات فقط، اجتمع الزبائن حول الترابيزة، وتنوعت الآراء وانقسمت الأصوات بينهما، حتى دخل عليهم صاحب المقهى الذي كان يبدو أنه عائدا من صلاة العشاء في المسجد المجاور للمقهى، قص عليه القهوجي الحكاية، وفعل ذلك بدوره المعلم حسن، وحتي يفض الخلاف صاحب المقهى اقترح أن يقسموا البلد نصفين وأن يدفع المعلم حسن تسعة جنيهات بدلا من عشرة، ولكن حسن رفض ذلك رفضا قاطعا، ووقف في منتصف المقهى في حركة استعراضية لا تتناسب مع حجم جسده..

 وتحدث مخاطبا صاحب المقهى وهو يشير إلى جيب جلبابه الأيمن قائلا أن في هذا الجيب فلوس حلال بينما في الجيب الأيسر فلوس حرام، وعلى المعلم أن يختار بين ثماني جنيهات من الجيب الأيمن أو عشرة جنيهات من الجيب الأيسر، فتر ثغري عن ابتسامة خفيفة، هذا الحسن عرف كيف يدخل إلى صاحب المقهى من الجانب الصائب، فصاحب المقهى يبدو عليه أنه رجلا تقي، لا يترك فرض من فروض الله، زبيبة الصلاة تزين جبهته، والسبحة لا يتركها من يده، فالاختيار متوقع قبل أن يخرج من فاه صاحب المقهى، وكما توقعت قبل بمبلغ الثماني جنيهات الحلال. 

عاد الزبائن الي أماكنهم، وعدت بنظري أيضا إلى الكتاب الذي كنت اضعه بين يدي، لم أكن اقرأ وشردت بعيدا، استدعى من الذاكرة أول مرة دلفت رجلي إلى هذا المقهى، والذي قادتني إليه قدمي دون سابق ترتيب، حيث كنت أسير على غير هدي اتأمل الشوارع واكتشف الأماكن التي لم تطأها قداماي من قبل، حتى وجدت نفسي جالسا على هذا المقهى النائي الذي يقع على رأس سوق خضار، وضعت كتبي التي كنت أحملها على ترابيزة وسحبت كرسي وجلست، وسرعان ما جاء القهوجي يسألني ماذا أشرب، طلبت شايا بصوت خفيض ويبدو أنه لم يسمعه فاستفهم ثانية ماذا أشرب، كررت الطلب بصوت أعلى وأنا أحدثه بحضرتك، أبتسم عند سماع كلمة حضرتك وعاد داخل المقهى، بدأت اوزع نظري بين الجالسين والجدران الذي تساقط طلآها، تعلقت أنظار الجالسين بي، فأنا ارتدي قميصلا وبنطالا وكوتشي رياضي واحمل تحت ابطي مجموعة من الكتب..

وهم يرتدون الجلباب البلدي والعمة الصعيدية التي تشبة الصينية، فأصبحت هيئتي هي الأمر الشاذ عن المكان، بدأوا يتهامسون لسبر أغوار شخصيتي والوقوف على حقيقية أمري، وأظن أنهم ظنوا إنني مخبرا جئت حتى أتجسس عليهم وأكتب التقارير فيهم، كانت تأتيني همساتهم ولكني لم أكترث لهم، حتى قرر أحدهم أن يقترب من الترابيزة، طلب الجلوس معي وقبل أن أجيب كان يجلس على المقعد المقابل لي، أخرج من جيب جلبابه علبة سجائر كليوباترا ومد يده بها لي، اعتذرت واخبرته إنني لا أدخن، فقال لي أن حساب الشاي الذي طلبته عليه ويجب على ألا أكسفه لأن هذا واجب الضيافة، وبدأ يعرفني بنفسه وأنه الآسطي "سيد" سائق ميكروباص، وتابع وهو ينظر بطرف عينه إلى كومة الكتب الموضوعة على الترابيزة، أنه متعلم وخريج جامعة ولكن الظروف هي التي جعلت منه سائق، لأن لا يوجد الآن وظائف حكومية والعمل الخاص عند أحدهم هو نوعا آخر من استعباد الجاهلية..

 كان يتحدث بلباقة ودون تلعثم، وجسده يهتز كله وهو يتكلم، شعرت في داخلي أنه رجلا طيبا، مثله مثل الكثير من الشباب الذين تخرجوا من الجامعات وتحطم حلم الوظيفة والزوجة والأولاد على صخرة الواقع المرير، فكان عليهم الاختيار بين لعن سلسفيل الحياة واللجوء إلى الإدمان كمحاولة للنسيان أو المحاولة مرة وأخرى حتى يخلق له فرصة تدر عليه دخلا يغنيه عن سؤال اللئيم، وعندما عدت بتفكيري إلى الآسطي سيد وجدته مستمرا في تعريف نفسه لي..

انصت إليه حتى انتهى من كلامه، وتطوعت وعرفته بنفسي قبل أن يطلب ذلك، أخبرته أن اسمي "أحمد" أدرس في كلية التجارة، واحب الثقافة والكتب، وأن الصدفة وحدها هي من قادتني للجلوس على هذا المقهى، قال لي أنه كان يقرأ في سنوات الدراسة وأنه يحب طه حسين ابن المنيا ورافع رأسها، وأن كان له تجربة قصيرة في كتابة الشعر، ومما دفعه إلى هذه التجربة هو حبه لزميلة له في الكلية، فكان يكتب ويحفظ الشعر كنوع من التقرب والتودد لها، ولكن لم تلق له بالا لأنها كانت طموحة وتنظر "علّيوي" وهو فقيرا لا يمتلك إلا مصروفه الذي كان يحصل عليه يوما وعشرة لا، هجرته الفتاة فهجر الشعر والحب وتزوج زواجا تقليديا، أنجب من زوجته ولدا وبنتنا وهم ورثه في الدنيا كما قال الخال الأبنودي، وعندما سألته هل يعرف الأبنودي أيضا، أجاب بنعم، يعرف الأبنودي وأمل دنقل وأحمد شوقي وأخرون وهو يهز رأسه هزة الواثق وضحك فضحكت.
الوسوم:

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *