معرض الكتاب.. ذكريات وحكايات
قبل سنين طويلة وبالتحديد في الصف السادس الابتدائي بدأت
رحلتي مع القراءة، كنت الوحيد من بين أصدقائي الذي يدخل مكتبة المدرسة في حصة المكتبة
بينما هم كانوا يلعبوا الكرة في حوش المدرسة، وكان أمين المكتبة يرفض أن يعيرني الكتب
حتى أقرأها في المنزل لأنها عهده عليه ويخشي ألا تعود مرة أخرى على الرف، لذلك لم أجد
من يشجعني على فعل القراءة حتى دخولي الكلية، وفي تلك السنوات تنوعت هواياتي بين لعب
كرة القدم والزراعة وتربية الحيوانات الأليفة..
ولم تنقطع عادة القراءة ولكن كانت على فترات متباعدة، وفي
الكلية كان يقف أمام البوابة رجل يبيع الكتب بأسعار في المتناول، فكنت أشتري منه بعض
الكتب والروايات واقرأها في القطار، وزاد حبي للقراءة وأصبحت هوايتي الأولى والوحيدة،
وصرت اقرأ بشغف ونهم، اقرأ في كل المجالات وفي كل الأوقات والأماكن، قرأت مئات الكتب،
وكانت هذه الكتب هي سبيلي للمعرفة، أجلس في غرفتي الصغيرة اقرأ من المساء حتى أذان
الفجر، وتكاثرت الكتب من حولي حتى صرت أتعثر فيها كلما حاولت المرور من بينها.
كنت أسمع كثيرا عن معرض القاهرة الدولي للكتاب، ولكن لم أزه
من قبل، لم أذهب إلى القاهرة من الأساس، وطقّت في دماغي أنني الآن قارئ ولدي مخزون
ثقافي ومعرفي كبير نسبيا، لذلك لابد أن أكون من زوار معرض القاهرة للكتاب، وبدأت في
التخطيط للزيارة المرتقبة قبل موعد المعرض بعدة شهور، كنت أعمل بجانب الدراسة ولا أنفق
من النقود شيئا حتى أجمع مبلغا معقولا يساعدني على اقتناء ما اشتهيه من المعرض، وعندما
جاء موعد المعرض حملت حقيبتي التي كانت فارغة إلا من كتاب واحد، كانت رواية "ثلاثية
غرناطة" لرضوي عاشور لأن الطريق من المنيا إلى القاهرة بالقطار يأخذ حوالي أربع
ساعات، بالتالي سأقضي هذا الوقت الطويل في قراءة الرواية، وصل القطار محطة رمسيس..
فحملت الشنطة على كتفي والرواية في يدي، وعندما هبطت رجلي
أرض القاهرة استقبلني في المحطة ضابط وبعد الترحيب والنظر في البطاقة سألني جاي تعمل
إيه في القاهرة، قلت له رايح معرض الكتاب أجيب كتب، تعجب هو ورجاله وقال جاي من المنيا
عشان تجيب كتب؟ وسأل بتشرب مخدرات؟ طيب سجائر؟ ولما جاءت إجابتي بلا قال بنرفزة كل
حاجة لا، وتناول الرواية من يدي وقلب في أول صفحاتها فوجد مشهد يصف فتاة عارية،
فابتسم ابتسامة انتصار ورد ليا الكتاب وقال لهم اتركوه ده منحل، ومن وقتها كل ما أسافر
باخد معايا كتاب صغير بحطه في جيبي اسمه "سيكولوجية الجنس" ومسميه
حصن المسافر.
خرجت من محطة القطار وأخذت المترو المتجه إلى أرض المعارض
في مدينة نصر، وهو المقر السابق لمعرض الكتاب قبل مقره الحالي في التجمع الخامس، نزلت
من المترو أمام المعرض، واصطفيت في طابور طويل أمام بوابة المعرض، مضت ساعة أو يزيد
عندما وجدت نفسي أقف متأهبا للدخول وبعد إجراءات التفتيش والتقليب في الحقيبة بعد مروري
من البوابة الالكترونية وجدت نفسي وجها لوجه أمام المعرض، لا أعرف أماكن دور النشر
ولا قمت بإعداد قائمة مشتريات للكتب التي أريد الحصول عليها..
مشيت داخل المعرض وتركت نفسي للقدر، وكل حين يوقفني شخص يعمل
في بيع منتج ما ويبدأ بالثرثرة عن ما يقدمه وما إلى ذلك، وبعد ذلك تعلمت ألا أكترث
لهؤلاء فوقتي لا يسمح والكتب الرخيصة لا تنتظرني حتى أفرغ من هذه الحوارات الجانبية
الدعائية، وفي النهاية وجدت نفسي أمام مجموعة من الخيم الضخمة وكل خيمة مقسمة إلى عدد
من الخيم الصغيرة لكل دار نشر، بدأت أكتشف المكان واختار الكتب على أساس النبذة المكتوبة
على غلاف كل كتاب، لأني لا أعرف أحد من هؤلاء الكتّاب المعاصرين، لأن وقتها ورغم تعدد
القراءات لم أكن ملم بكل أسماء المؤلفين وخاصة المعاصرين منهم.
وبينما أنا في رحلة اكتشافي للكتب داخل المعرض قال لي بائع
في دار نشر أن هذه الرواية التي في يدي كاتبتها موجودة الآن وإذا حصلت على نسخة من
الرواية يمكنني أن أوقعها منها، عجبتني الفكرة وحتى يكون أول توقيع على كتاب أحصل عليه،
اشتريت الكتاب مدفوعا برغبتي في التوقيع لا المحتوى، وفي ركن داخل الخيمة كانت تقف
مؤلفة الرواية، للوهلة الأولى هي فتاة في العشرينيات أو أوائل الثلاثينات، ترتدي بنطلون
جينز ضيق وجاكت وتاركه شعرها متحرر ينسدل على كتفيها..
عندما اقتربت منها وجدتها تستقبلي بابتسامة وتمد لي يدها
للسلام، فمددت يدي وسلمت وأنا اتخبط من الخجل، أنا قادم من الصعيد وهذا الموقف لم أتعرض
له قط، أن أجد فتاة جميلة تبتسم لي وتبادر وتمد يدها بالسلام وتسألني عن الصحة والأحوال
حدث لابد أن يتوقف عنده التاريخ، حصلت على التوقيع واشتريت رغيف شاورما وجلست على الرصيف
استريح قليلا، وفي داخلي قلت أن يوم واحد غير كافي للمعرض لأنه كبير جدا وهناك آلاف
الكتب، لذلك احتاج إلى أسبوع على الأقل، فرغت من الطعام وقمت أكملت جولتي داخل المعرض
حتى نفدت نقودي، حملتي حقيبتي واتجهت إلي محطة القطار.
وأنا عائد من القاهرة ركبت قطار طالع من بور سعيد وأخره الأقصر
وأسوان، وكان يجلس بجانبي شاب من أسيوط بيشتغل في القاهرة وبيرجع كل 15 يوم أجازة قصيرة،
متزوج من 7 سنوات وعنده بنت وولد، وقال لي أن النهاردة عيد زواجه عشان كده نازل أجازة،
سألته هتجيب لمراتك هدية؟
قال هدية إيه وأنه مش بتاع الكلام ده لأنها هتتعود علي الهدايا
وهتعتبرها مناسبة سنوية، وأنه لازم يكون ناشف مع الحريم وله عليهم كلمة، ومرر لي النصيحة
دي على اعتبار ما هيكون إذا فكرت في الارتباط، رن هاتفه، رد وفهمت من كلامه إنها زوجته،
قدم لها بيان تحرك وكان كالفأر المبلول وهو يحدثها، بعد تبرير لها ان ما منعه عن الرد
بعد الرنة الأولى صوت القطار وضجيج الباعة..
أنهى المكالمة ونظر لي مبتسما وقال: متقدرش تستغنى عني، كتمت
ضحكة وقلت له واضح، وأنا تعودت عامة علي هجايص الركاب، فمثلا عسكري في الجيش يسرد لي
أنه تصدي لعصابة كاملة بمفرده وقام بتصفيتها أو حدثه القائد بنبرة ساخرة فضربه لأنه
صعيدي ولا يقبل الأهانة، ورغم ضآلة حجم المتحدث دائما إلا أنه لا يكف عن حكي مغامرات
أسطورية، وكل ما افعله أهز رأسي لأن الطريق طويل، انشغلت عنه بكتاب أخرجته من الحقيبة
وكانت رواية "شباب امرأة" وحتى أتخلص من ثرثرة رفيقي في الطريق أخرجت له
رواية "أم العروسة"..
وقال لي أنه لم يقرأ قبل ذلك روايات ولكنه هيجرب، واندمج
مع الرواية وقبل ما ندخل على المنيا كان انهي نصفها، وفكرت أن انزل واترك له الرواية
تسليه حتى أسيوط وتبقي بداية له في عالم القراءة وان دور القارئ أنه ينشر الثقافة،
ربما هذه الرواية تكون نقطة لتغير حياته، وعند وصول القطار إلى المنيا حملت حقيبتي
واستعديت للنزول، لمحني الشاب الأسيوطي وقال لي حمد الله على السلامة ومد لي يده بها،
رديت السلام وقلت له خلي الرواية معاك تسليك حتى أسيوط ونزلت.