جاري تحميل ... الفيتشر

مدونة المعافرين في الأرض

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

حكاية

إسلام كمال يكتب: من قتل أسمهان؟



في ليلة شتوية باردة كان المقهى يعج بالرواد، وتتعالي أصوات الضحك والمناقشات الساخنة وأحيانا السباب، وأكواب الشاي وقرقرة الشيشة تلفهم في جو عائلي حميمي، وكان يأتيهم صوت أسمهان يصدح من الراديو الضخم القابع أعلى قاعدة من الخشب مثبتة على أحد جدارن المقهى بأغنية «أمتي هتعرف أمتي.. إني بحبك أنت».

 

أخذ الجالسون يتفاعلون مع كلمات الأغنية وتميل رؤوسهم في بهجة، ومنهم من ترحم علي هذه الحسناء التي رؤيتها تسر الناظرين وتسمر العابرين في أماكنهم، وقال أحدهم أن صوت أسمهان هو صوت ملائكي قادم من السماء ولا يضاهيه صوت في تاريخ الغناء العربي، بينما أعترض آخر على هذا الكلام قائلا أن أم كلثوم هي الأفضل وأنها ملأت الدنيا غناء وبهجة بصوتها الذهبي وأنها سيدة الغناء العربي وكوكب الشرق والغرب والكرة الأرضية كلها، وفجأة أنتفض رجل يجلس في أخر المقهى ويبدو أنه استيقظ توا من غفوة وقال: «أسمهان.. أنتوا بتقولوا أسمهان، دي قشطة.. مربي، سمن بلدي، بياض إيه وحلاوة إيه، ولا عيونها آه من عيونها، خسارة اللي زي دي تموت وهي لسه في عز شبابها والغفر اللي متجوزينهم هما اللي يعيشوا ويسودوا علينا أيامنا وليالينا».

 

ويبدو أن أنتبه الحاضرين لموت أسمهان المبكر وتحولت دفة الحديث إلى واقعة موت أسمهان، واختلفوا حول سبب موتها المبكر، ذهب البعض أن انقلاب سيارتها التي كانت سبب وفاتها هو مجرد حادث طبيعي وقضاء وقدر، ولكن الجانب الأكبر من الحضور أختلف مع هذه الرواية الرسمية وتنوعت آرائهم حول الحادث، وكانت أغلب الآراء تدور ما بين أن الملك فاروق هو من قتلها أو الملكة نازلي أو المخابرات الإنجليزية لأنها بعد أن تعاونت مع مخابرات الحلفاء فكرت في التعامل مع أعدائهم الألمان، وكانت الرواية الأكثر تداولا وانتشارا وشعبية أن أم كلثوم هي التي قتلتها بسبب الغيرة منها، وضجت القهوة بالآراء والتفسيرات.

 

ومن باب المقهى دخل الأستاذ «درويش» رجل تجاوز عمره الستين وزحف الشيب إلى رأسه، اسمه «سيد» ووالده اسمه «درويش»، ولمّا كان والده مولع بالفن والغناء وبالتحديد بالمطرب سيد درويش سمي ابنه الأول سيد حتى يكون اسمه سيد درويش، رحل الأب مبكرا وترك خلفه أربع أبناء، تحمل سيد مسؤولية الأسرة والتحق بالفرقة الموسيقية التي كوّنها والده، وكان يهوي جمع أشرطة الأغاني وشارك في الحفلات وإحياء الأفراح وحصل على شهرة لا بأس بها، تكفل بزواج أخواته البنات وتزوج هو أيضا وأنجب بنت وحيدة سمها «فيروز» تعيش معه بعد أن رحلت زوجته عن الدنيا، وبحكم السنين اندثرت الفرق الموسيقية وظهر الـ دي جي وأغاني المهرجانات التي تسبب تلوث سمعي وتفسد الذوق العام كما يرى.

 

لمح المعلم «تختخ» «درويش» على باب المقهى، فوقف من مكانه في حركة مسرحية وهتف قائلا: «سمع هس.. الأستاذ درويش هو اللي هيقولنا مين قتل أسمهان»، بوغت درويش بكلام المعلم تختخ ولكن سرعات ما تبدلت ملامحه من الدهشة إلى الابتسام، فهم دائما وأبدا يقصدونه في كل شيء يتعلق بالفن، أقترب منهم وبعد السؤال عن الصحة والأحوال سحب كرسي وتوسطهم، وأخضر له الولد «رشدي» القهوجي كوب الينسون الذي يحبه، وبدأ درويش في تقمص دور الراوي العليم ببواطن الأمور وخفايا الأشياء.

 

قال درويش أن أسمهان موهبة صوتية فذة، بهرت المستمعين في مصر والعالم العربي في عصرها، ورغم قصر عمرها، وأن عطاءها الفني لم يستمر لسنوات طويلة، فإن صوتها الساحر مازال يمتع كل من يستمع إليه اليوم، وإلي ما يشاء الله، وأن مشكلة أسمهان مثلها كمشكلة كل امرأة جميلة، دائما تحيك حولها الحكايات، والتي في الغالب الأعم تكون مجرد هراءات ولا أساس لها من الصحة، فمثلا أم كلثوم كانت تمتلك جمال عادي فلم تتعرض طوال عمرها المديد لما تعرضت له أسمهان رغم عمرها القصير.

 

وأضاف أن أسمهان هو اسم فني واسمها الحقيقي آمال الأطرش، أميرة الدروز وشقيقة فريد الأطرش، وجاءت إلى مصر وكانت تحيا في فقر مدقع، ولكنها كانت تمتلك صوت جميل ووجه ملائكي وهذا ما يسر لها دخولها عالم الغناء والسينما، وكان أول من قدمها للصحفي محمد التابعي هو موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب حيث هاتفه الأخير وطلب منه أن يحضر إلى مكتبه بعمارة «الايموبيليا» وكان في انتظاره هناك أسمهان وكان معروف عن التابعي غزواته الغرامية، وكان من المؤسسين الأوائل للصحافة الحديثة في مصر، وقال له عبد الوهاب: «هذه المرأة التي سوف تكسر أنفك».

 

 

ذهب التابعي إلى مكتب عبد الوهاب في الموعد، فوجد عبد الوهاب جالسا يعزف على العود، وأمامه أسمهان تغني ثم يشاركها عبد الوهاب في أغنية قيس وليلى، وقد سجل التابعي في مذكراته هذا المشهد قائلا : «وجدتني أنظر إليها طويلا وأتأمل وجهها وأنا مأخوذ بحلاوة صوتها الحزين، وأما وجهها فالحقيقة أن أسمهان كانت جذابة وفيها أنوثة، لكنها لم تكن جميلة بحكم مقاييس الجمال، ولكن عينيها كانت كل شيء، في عينيها كل السحر والسر والعجب، وكانت أسمهان تعرف كيف تستعمل سحر عينيها عند اللزوم».

 

وإلى لقاء مع الجزء الثاني من حكاية «من قتل أسمهان؟» قريبًا

الوسوم:

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *