جاري تحميل ... الفيتشر

مدونة المعافرين في الأرض

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

مقال

الشيخوخة بوصفها سؤالًا أزليًّا: تأملاتٌ في فيلم «Amour»



كتب: إسلام منير 

يرقُد جدِّي أمامي على فِراشه وقد أنهكه المرض، هذا هو عامه الثالث في صراعه مع سرطان المثانة، من يراه يُدهش لجسده الهزيل ووجهه الشاحب واصفرار لونه، وكأنّ الحياة تتسرّب منه قطرةً قطرة. أعلم أنها أيامه الأخيرة، وأمي الجالسة بجانبي غارقة في دموعها تعلم ذلك أيضًا، جميعُ مَن هنا يدرك تلك الحقيقة المُرَّة، حتى الحديث عن الكفن والعزاء وترتيبات الدفن يجري في حضرته، وكأنهم يرغبون في إشراكه في حديث رحيله الوشيك. أعود بالنظر إلى جدّي متعجباً من غرائبية المشهد، فأجده يَرمُقني بعينيه الغائرتين، فيما ترتسِمُ ابتسامة واهنة على شفتيه المتشققتان اللَّتانِ تكادان تنطقان بكلمات لا يملك القوة لإخراجها، فيهمس لي بأنفاسٍ ثقيلةٍ متقطعةٍ مُشيرًا إلى علبة سجائر بجانبي: "ناولني سيجارة"، ثُمَّ يتجهّم وجهه فجأة وتتلاشى ابتسامته، كما لو أن موجة خفية من الألم اجتاحته فجأة، وعاد يصرخ بالألم والضعف باكيًا.


ها هو يرقد أمامنا في انتظار الرحمة والخلاص، ينظر في أعيننا جميعًا متوسلًا الموت، أليست من أقسى المحن حقًّا أنْ نشهد تلاشي أحبّائنا أمام أعيننا، دون أن يكون بمقدورنا فعل شيءٍ غير الحزن والعذاب؟ فما جدوى العذاب إذن؟! نجلس مكتوفي الأيدي متسائلين: ما الذي يتوجّب علينا فعله الآن؟ وما واجبنا نحوه في حالته تلك؟ حتى البقاء مستيقظًا بات عبئًا فادحًا عليه، ولا يغمض له جفن من شدة الألم؛ لا أملَ في الشفاء، وفي حالته الميؤوس منها تلك، لا خلاص سوى الموت؛ الجميع هنا يدرك ذلك.


ومنذ تلك اللحظة، أخذْتُ أفكّر في معنى الحب، وما هو أخلاقي، وما هو واجبنا تجاه من نحب في مواجهة المرض والعجز والموت..


السينما، في جوهرها، هي فن طرح الأسئلة قبل أن تكون فن تقديم الإجابات، وككلِّ أفلام المخرج النمساوي المخضرم مايكل هاينكي، يأتي فيلمه البديع «Amour» بفهم واعٍ لهذه المعادلة؛ حيث يطرح أسئلة جوهرية حول مفهوم الحب في أنبل معانيه، والوفاء، والكرامة في مواجهة المرض والشيخوخة والفناء، مُسلِّطًا الضوء على التأثير الذي يمارسه المرض على المريض من جهةٍ، وعلى أولئك المحيطين به من جهة أخرى. فيأخذنا هاينكي في رحلة سينمائية تمتدُّ لساعتين تتخلَّلها لحظات مؤلمة، صامتة، مفجعة، لحظاتٌ تبعث على الحزن وتدعو للأسى، ومشاعر إنسانية صادقة تُلامس قلب المُشاهد مباشرةً.


يُقدّم لنا هاينكي فيلمًا صادقًا عن المعاناة والأمل، يحاول فيه استكشاف معنى الإنسانية في أقسى الظروف، متناولًا حكاية تدور حول زوجين مسنين، آني وجورج؛ مُعلِّما موسيقى متقاعدين يعيشان معًا في عزلة يَسُودها الحب والهدوء والفن، وتنقلب حياتهما رأسا حين تُصاب الزوجة بسكتة دماغية شديدة تتسَبَّب لها في شللٍ جزئيٍّ، فيبدأ الزوج في رعايتها والعناية بها. ينظر جورج طيلة الفيلم لآني بأسى وإشفاق، يكابد قلقًا وحزنًا مكتومين، ويألم لها أشدَّ الألم، لكنه يظل يُحاول التماسك متشبِّثًا بأمل النجاة والشفاء. أما آني، فقد استسلمت بيأس لمرضها وتصالحت مع موتها العاجل القريب، لتقول له في أحد المشاهد حين يخبرها بأن الأمور ستتحسن: "أنت تقوم بمحاولات جميلة لجعل حياتي أسهل، لكنني لم أعد أريد الاستمرار"، لكن حب جورج العنيد والمثابر لها يرفض تلك الحقيقة المؤلمة، ونفسه المفعمة بالرجاء تظل متشبّثة بأطراف الأمل، لتصبح علاقة الحب التي تربطهما موضع امتحان صعب. ومع مرور الأحداث، تزداد حالتها سوءًا وألمًا، ويزداد معها يأس جورج ويستولي عليه الجمود، حتى لم يعد للحزن مكان في صدره، فقد أنهكها المرض وأضناها التعب، بيد أن حالتها المتدهورة -مثل جدّي- باتت ميؤوسًا منها.


غيَّب الموت جدّي بعد ثلاثة أيام من تلك الزيارة، في السادس من أكتوبر عام ٢٠٢٤.

 

رحل بعد إصرارٍ عنيد على البقاء في بيته ملازماً فراشه، رافضًا المستشفى والأطباء والأدوية، تمامًا كما فعلت "آني" في الفيلم، لتنتهي قصة كل منهما على فراشه بعد صراع مرير مع المرض. تتشابه القصتان على نحوٍ مدهش، فرغم أن قصة جدّي لم تكن قصة حب رومانسية بين زوجين كما هو الحال مع الفيلم، إلا أنها كانت مشبّعة بالحب علي نحوٍ آخر: حب حفيد لجده، وحب أبناء لأبيهم. ولم يكن غريبًا ما أحدثه وفاته من راحة وطمأنينة بصدور جميع أحبّائه، فقد انقضى ألمه وأُعتِق أخيرًا من عذابه، بعد أن كابد تعبًا مرهقًا ومرضًا أليمًا لمدة ثلاث سنوات، وها هو الآن يرقد في العدم، ولم يعد هنا ليعاني أو يتألم. وما زلت أذكر ذلك المشهد في يوم جنازته: حين مددْتُ بصري نحو فراشه لأرى جسده البارد راقدًا وقد أسجتْهُ جدتي وأمي تقف على كثب منه دامعةَ العينين، بدا لي وكأن الموت لم يغيّر فيه شيئًا، فكان وجهه كالنائم، وشعرت كما لو أنه حين كان حيًّا لم يكن إلا جثةً تتنفّس، فلم يتغير شكله أو هيئته أو لونه قط بعد أن وافته المنية.


عودةً بالحديث عن الفيلم، تدور أحداثه بأكمله -باستثناء مشهد الحفل الموسيقي في البداية- في موقع واحد تقريبًا، فيُترك المُشاهد في بيئة باردة بطيئة الإيقاع، مع زوجين مسنين يعيشان في شقة باريسية أنيقة تفيض بالكتب والأشرطة الموسيقية، ولا يستخدم هاينكي هنا المكان كخلفيةٍ صامتة فحسب، بل يحوّله إلى شخصية قائمة في ذاتها لا يقل حضورُها تأثيرًا عن حضور الشخصيات، ليعبّر من خلاله عن العمر الطويل الذي تقاسماه وعاشاه معًا، حتى أصبح جزءًا منهما، وأصبحا هما، بدورهما، جزءًا منه.


وبالنظر إلى الأسلوب الإخراجي المُتّبع، يعتمد هاينكي على لقطات ثابتة طويلة دون أي حركة كاميرا مريحة، ليُربك المُشاهد ويجعله يشعر بالاختناق ذاته الذي تشعر به الشخصيات. وعلى غرار كل أفلامه، تغيب الموسيقي التصويرية تمامًا، ويقوم هاينكي بدلًا من ذلك بتوظيف الصمت، وذلك ليجعل المتفرج يختبر استجابته الشخصية تجاه الفيلم وتأثيره عليه، دونما توجيهٍ مُسبق منه بما ينبغي أن نشعر به في مشاهد معينة. فيقول هاينكي في إحدى لقاءاته إن الموسيقي كثيرًا ما تؤدي وظيفة المكياج في السينما؛ وهي أن تغطي العيوب، حيث تُوجد الموسيقي في معظم الأفلام لملء المشاعر التي تفتقر إليها، أو لإخفاق المخرج في خلق شعور معين، فتُفرَض على المتفرّج في النهاية انفعالاتٌ لم يخلقها العمل نفسه. لكن هنا، يقرر هاينكي الاعتماد في تأثيره على المتفرج على قصة جيدة، وبناء مُحكم، وأداءات تمثيلية صادقة ومُقنعة.


قد ينزعج البعض من بطء إيقاع الفيلم وإسهابِه في لحظاتِ صمت تصل إلى حدِّ الرتابة أحيانًا، وقد لا يكون الفيلم الأكثر إمتاعًا، فهو لا يسلي بالمعنى التقليدي، بل تكمن متعته في إشراكه المُشاهد في عملية بناء المعنى، فيدعوه للتفكير والتحليل والنقاش وإعادة النظر في أشياء كان يعتبرها بديهية. ولا يحاول هنا هاينكي فرض رؤية أُحاديَّة، بل يفتح المجال لتأويلات متعددة تثري التجربة وتجعل من كل مشاهدة اكتشافًا جديدًا، وذاك ما يجعله عملًا سينمائيًّا ناضجًا جديرًا بالاعتبار، كما يندرج بحقٍّ ضمن فئة تلك الأفلام النادرة التي تُذكّرني دائمًا بقوة السينما الحقيقية وسحرها، وفي رأيي، يُعد أيضًا من أجرأ وأصدق الأفلام التي تناولت موضوع الشيخوخة، بل وأعظمها. 


بالنسبة لي، نجح هاينكي في مسعاه، إذْ جاء الفيلم لينبشَ في أعماقي حين شاهدته للمرة الأولى، تاركًا أثرًا غائرًا بداخلي، فوجدتني أعيش تلك التجربة من جديد، لكن هذه المرة من مسافة تسمح لي بالتأمل والنظر بوضوح، وأدركت في النهاية أن الفيلم لا يروي قصة "آني وجورج" فحسب، بل يحكي قصتنا جميعًا، فالشيخوخة ليست حالة خاصَّة أو استثناءً لا يُصيب إلا البعض، بل تنتظر كل من نحب كما تنتظرنا نحن أيضًا؛ فهي حتميَّة، ويتعذر اجتنابها. ولذلك، فالفيلم يطرح حالة عامة تمَسّ كل مَن يشاهده، حالة كونيةً أزلية، ومأساوية في الوقت نفسه.


مرّت سنة على رحيل جدّي، وما زلت لا أملك إجابات على الأسئلة التي طرحتها، ولا أظن أن هاينكي يملكها أيضًا. لكن ما يمكنني قوله بثقةٍ هو أن الفيلم علمني شيئًا واحدًا، وهو أن الشهادة على ألم مَن نحب، مهما كانت موجعة ومُعجِزة، قد تكون، بحد ذاتها، فعلَ حب، وربما هذا هو كل ما نملكه في النهاية.

الوسوم:
التالي
هذا هو أحدث مقال.
السابق
رسالة أقدم

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *