صعيدي في القاهرة.. قصة قصيرة من تأليف إسلام كمال
من أسبوعين زرتُ القاهرة زيارة خاطفة، ترددت فيها على أكثر من مكان ثقافي، واشتريت مجموعة من الكتب غير متاحة في المنيا، لففت كثيرًا منتعلًا جزمة ضيقه، قبل إحالتها إلى بُلغة (شبشب يعني)، فجلست على قهوة أستريح قليلا.. طلبت شايًا وأخرجت رواية اقرأ فيها، كانت رواية الطنطورية لرضوى عاشور.
تعودت القراءة
وسط الضجيج والدوشة، لأني كنت أسافر كثيرًا في قطار مميز، كنت أسافر وحيدًا؛ لم أحرص
طوال حياتي على إقامة علاقات مع أحد، لا أصدقاء ولا أحباب، فكانت القراءة تهوّن عليّ
وحشة الطريق.
رضوى عاشور ترفعت
عن الكتابات النسوية الرديئة، وكتبت في التاريخ. التاريخ جامد، قراءته تبعث الملل،
عكس رواية التاريخ، تقرأ فيها حياة كاملة التاريخ جزء منها.
دخل القهوة شاب
عشريني تتقدمه عصا نحيله يتلمس بها طريقه؛ الشاب كفيف، سار وسط الكراسي ببطء، كاد أن
يتعثر ولكن بحرفية اكتسبها بالممارسة وصل إلى مقعد فارغ، جلس وطوى بجانبه عصاه التي
كانت أقرب إلى إريال تلفزيون؛ تُطوى وسهلة الحمل.
كان يحمل كيسًا
بلاستكيًا، اخرج منه علبة كشري، نزع الغطا وتناول كيس شطة مرفق مع العلبه، ثقبه بفمه
ومال بجسده على العلبة، أحاطها باليد الأخرى الفارغة، وبدأ يسكب الشطه بحرص مستخدمًا
يده للمعايرة بدلًا من عينه، خانه التقدير فسالت بعض نقاط الشطة على قميصه، وسالت معها
دموعي!
أخرج الشاب منديلًا
جفف به قطرات الشطة، تناول الملعقة وألصق فمه بالعلبة وشرع في الأكل، مر به القهوجي
فطلب شايًا، كيف عرف أنه القهوجي لا أعلم، ربما من التجربة استطاع تمييز وقع خطواته
على الأرض.. فرغ من الأكل واخرج من جيبه هاتفًا، هاتف صغير لا يحتوي على أي إمكانية
سوى الاتصال وفقط، شردتُ بذهني لوهله، كنت أتأمل حالته، ولمّا عدتُ إليه بنظري لم أعرف
إذا كان هو من أجرى الاتصال أم أتاه، كان يتحدث بصوت هامس، فرميت بأذني معه، كانت فتاة،
يخبرها أنه يحبها، وأنه لا يكف عن التفكير فيها، فترد عليه عبر الهاتف أتوقع أنها قالت
له «بكاش وكاذب» فينفجر ضحكًا، رنت ضحكته في المكان، نظر إليه الجميع وابتسموا،
وشاركتهم الابتسام.
كنت حزين وأرى
أن حياتي بائسة، لا جديد فيها، وعندما رأيت هذا الشاب الذي رغم إعاقته يمارس الحياة
بعفوية، ولم تغادره الضحكة، واستطاع أن يحب أيضًا، لم ينتحر أو يكفر وهو الذي حرمه
الله من نعمة البصر، تقبّل الحياه كما هي فتقبلته، بينما أمارس أنا البكائيات لأسباب
تافهة.
دفعت الحساب ومررت
ببائع كتب قديمة، اشتريت مجموعة كبيرة من الكتب، طبعات مكتبة الأسرة، لم تعد طبعاتها،
مكتبة الأسرة كانت مشروع دعائي في الأصل أقامته سوزان مبارك ورفعت شعارات كتاب لكل
فرد ومكتبة لكل أسرة، ولكن وفرت كتبًا عظيمة بأسعار زهيدة، رغم أن حقوق نشر الكتب كان
بعضها لدور نشر خاصة، ولكن يكفي أن الست أرادت هذا، والشجاع من يفتح فمه من أصحابها،
بعد تنحي الرئيس مبارك بدأت دور النشر الخاصة بفرض سيطرتها على حركة النشر، وأصبح ما
ينشر ضمن مشروع مكتبة الأسرة كتب سقيمة لا يقربها أحدًا.
من ضمن الكتب التي
اقتنيتها كتاب «قصة حياتي» لهيلين كيلر، الكفيفة الصمّاء البكماء التي استطاعت أن تسطّر
اسمها بحروف من نور، فقدت النظر والسمع والنطق إثر تعرضها لحمى في طفولتها، لم تيأس
وتركن إلى حائط الصعبانيات، وإنما استمدت من إعاقتها قوة، بدأت تميز معنى الأشياء باللمس،
أحبت القراءة، وأصبحت كاتبة ذائعة الصيت وأستاذة ومحاضرة أيضًا، زارت مصر وجمعها لقاء
بالصعيدي المصري الكفيف الذي بإصراره وعزيمته صار عميد الأدب العربي، ووصفت كيلر لقاءها
بالعميد بأعظم يوم في حياتها، رغم أنها لم تره ولم تسمعه، بل ميّزت ملامحه باللمس،
عندما سُئل مارك توين عن أهم شخصيات في القرن التاسع عشر وهو الذي غالب آرائه ضد المرأة
أجاب: نابليون بونابرت وهيلين كيلر.
من تأليف: إسلام كمال