جاري تحميل ... الفيتشر

مدونة المعافرين في الأرض

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

مقال

السيد الرئيس وهروبه إلى الحرية

كتاب «هروبي إلى الحرية»
مقال: إسلام كمال


يقول جوزيف جوبلز -وزير الإعلام النازي-: «عندما أسمع كلمة ثقافة، أتحسس مسدسي»، هذه هي مأساة علي عزت بيجوفيتش؛ إنه يفكر، التفكير في زمن تكفير الكهنوت الديني -الذي تحركه في الغالب الأعم عصاة السياسي- يصبح خطأ بل خطيئة، عقوبتها التصفية والقتل أو على أحسن تقدير السجن! بالنسبة للمفكر، السجن أفضل من الموت والعدم، وأن كان أحيانًا يتمنى السجين الموت حتى يهرب من قسوة وطأة التعذيب التي تطوله داخل السجون.

 

في السجن.. جلس بيجوفيتش يكتب في دفتر صغير؛ يكتب عن الحياة والناس والحرية، يكتب بلا توقف أو انقطاع حتى يتغلب على وحشة السجن وظلامه، الكتابة شفاء ومقاومة، والقلم سلاح الأعزل، يحاول أن يبدد به القبح بالجمال، الكلمة سحر وغواية كذلك! والحكاية التي لم تُدَون كأنها لم تحدث.. هو لا يريد أن يكون سرابًا، لا يريد أن يكون عابرًا بين العابرين بلا تأثير، يأبى أن يكون جمادًا أو صخرة بلا رأي بلا تغيير.

 

تسلّح بإيمانه وثقافته الواسعة؛ وكَتب... وتكاثرت الدفاتر وصارت ثلاثة عشر، وتضاعفت معها ريبته وخوفه؛ الكتابة داخل السجن جريمة لا تغتفر، وإذا وقع دفتر في يد أحد جلاديه ستكون الطامة الكبرى، ومزيدًا من التعذيب والتقريع. وفي النهاية وزع دفاتره على بعض المساجين، حتى لا تِضبط معه فتصادَر وتباد جميعها، وبلغ عدد سنوات تدوين أوراق السجن خمس سنوات.

 

تظن العقول الضيقة أنَّ مصادرة الحريات وسيلتها الأهم لمنع التفكير، ولكنها حالمه في ظنها، التضييق والمنع ساعدا الأدب والفن على امتداده؛ فلولا السجن ما كان أدب السجون، الفكر وتنوعياته سواء الأدب أو الفن كاشفان وفاضحان، لذلك يخشاه دعاة الظلام والجهل وأصحاب الأهواء والأيدولوجيات الوصولية. المفكر دائمًا أذكى.

 

الكاتب إسلام كمال
الكاتب الصحفي إسلام كمال 

هروبي إلى الحرية

 

هروبي إلى الحرية.. عنوان كتاب على عزت بيجوفيتش، والذي ضم بين دفتيه أوراق السجن، ما هي الحرية التي يقصدها وأي هروب هذا الذي ينشده؟ لم يترك بيجوفيتش القارئ في حيرته كثيرًا، ويفسر في مفتتح الكتاب الغاية من العنوان والمقصد، ويعني به أنه إذا كانت الحرية المادية والجسدية قد سلبت منه بعد أن زج به في غياهب السجن، فإنه ترك حرية الفكر خارج جدران السجن المقيت والمُنَفِر، يمكنهم إقران الأيادي والسيقان في الأصفاد، لكن تظل الروح حرة هائمة في ملكوت الله، إذا أراد صاحبها ذلك، ولأنه قارئ ومثقف واسع المعرفة، غزير العلم، شغوف بالفضول، قرر أن يكتب ويكتب حتى لا يتسرب اليأس إلي نفسه، اليأس موت قبل الموت، قرر أن يكتب حتى لا يُجَن!

 

كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة

 

يقول مولانا النفّري «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة» وهذه العبارة هي منهج وأسلوب عزت بيجوفيتش في كتابه، مجموعة من الخواطر المتفرقة صاغها في جمل قصيرة نحيلة، شديدة التركيز والتكثيف، ليست خواطر ساذجة سقيمة بل جادة حكيمة، لا تخلو من فلسفة عميقة لا يفهمها ولا تصل لأهل ظاهر الكلام، وهي نتاج قراءات عديدة في مجالات كثيرة وزهد وحب وتفكير وتأمل طويل، ولذلك تحتاج إلى قراءة متأنيه وتركيز عالٍ.


كثرة القراءة لا تجعلنا أكثر ذكاءً


يقول بيجوفيتش في موضع في الكتاب «كثرة القراءة لا تجعلنا أكثر ذكاءً؛ فبعض الناس يلتهمون الكتب من دون الوقفات الضرورية للتفكير هذه الوقفات ضرورية من أجل هضم المقروء ومعالجته»، وهذه الفقرة جِدُّ مهمة، موضوعها فِعل القراءة قبل غايتها، القراءة مثل الطعام؛ أمر ضروري لبقاء عمل فضيلة التفكير، ومن بعد يأتي هدف ومنهج القراءة. هل هي وسيلة لتسرية الوقت والمتعة وفقط أم دراسة وفهم ومثابرة وتدبر؟ بالطبع الثانية، ولا يعني ذلك أنها بلا متعة، التفكير متعه خالصة، ثقافتنا أفقية مشتته في الغالب، ونحتاج إلى ثقافة رأسيه ترتفع بالعقل والروح إلى عباب السماء، ولكن هنا يطل سؤال برأسه: لما القراءة أساسًا؟


عباس العقاد


يقول الأديب الراحل عباس العقاد «أحب الكتب ليس لأنني زاهد في الحياة.. ولكنني أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني»، قرأ العقاد في حياته 60 ألف كتابًا، العمر البيولوجي الذي عاشه 74 عامًا ولكن العمر الجيولوجي الذي عاشه هو مئات آلاف السنين، يستبدل القارئ بعمره البيولوجي القصير عمرًا آخرَ جيولوجي يبلغ تراث الإنسانية كلها، يستطيع القارئ من خلال القراءة أن يعيش حيوات كثيرة لم يعشها.

 

وفي موضع آخر يقول بيجوفيتش «الشخص اليقظ بين السكارى مضحك ومثير للسخرية  فـَفى مجتمع السكارى يكون السكارى هم الأغلبية التى تُحدد معيار الحالة السوية ووسط هؤلاء يبدو اليقظ شاذًا»، وهذه الجملة تجرع مرها بيجوفيتش نفسه عندما سجن، دائمًا التقليديون والمرددون يرعبهم الشخص المختلف، ويسعَون إلى البطش به وإسكاته بشتى الطرق التي تصل أحيانًا إلى القتل، ويمكننا استدعاء قصة الفيلسوف سقراط الذي كان ضحية جهل شعب أثينا، عندما قال"إنه يعلم بأنه لا يعلم شيئا.. بينما هم لا يعلمون أنهم لا يعلمون" ودعاهم إلى التفكير وشكك في آلهتهم الكثيرة، كان رد فعلهم أنهم نبذوه واتهموه بإفساد العقول والشباب، وقدموه للمحاكمة وحُكِم عليه بالموت متجرعًا السم!

 

يقول أيضًا «السجن يقدم معرفة، يمكن أن نقول عنها: إنها مؤلمة للغاية»


«عندما تكون في السجن يكون لك أمنية واحدة: الحرية، وعندما تمرض في السجن لا تفكر في الحرية، وإنما بالصحة، الصحة إذن تسبق الحرية»، في العبارة الأولى يمكن تفسيرها بأن المعرفة تخرج من رحم المعاناة، وربما لو كان لم يمر بيجوفيتش بهذه المعاناة لكان شخصًا آخر غير الذي نعرفه وما كان هذا الكتاب الذي بين يدينا الآن، والكاتب الروسي الشهير دوستويفسكي كتب روابته العظيمة «مذكرات من بيت الأموات» بعد أن عانى ويلات السجن لسنوات، بعد أن حُكم عليه بالإعدام وأسندت إليه نفس تهمة بيجوفيتش، ولكن تدخل شقيق دوستويفسكي واستطاع أن يخفف الحكم للسجن فقط، وكانت هذه التجربة سبب إصابة دوستويفسكي بالصرع، ولكن أنجز روايته التي تعد من أبرز روايات أدب السجون، رحلوا الجميع وبقيت أسماء سقراط وبيجوفيتش ودوستوفيسكي بحروف من نور، نستعيد سيريهم ونستظل بنور بصيرتهم.

الوسوم:

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *