جاري تحميل ... الفيتشر

مدونة المعافرين في الأرض

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

حكاية

قارئ الجثث.. مذكرات طبيب شرعي بريطاني عاش في مصر (1-2)



كتب: إسلام كمال 

السير الذاتية هي من مفضلات القراءة بالنسبة لي، خاصة سيرة الأشخاص المؤثرين والذين شهد لهم العالم بالتفرد والتميز، وليس بالضرورة أيضا أن يكون هذا السبب الوحيد للجودة، فأحيانا اقرأ سير أشخاص قد يراهم البعض عاديين ولكنهم يعنوا لي الكثير، فذائقة القارئ تسبق كل التخمينات والتوقعات، والسير أنواع، البعض يكتبها في قالب كتاب تقريري يكون في الغالب الأعم ممل لا تتحمله الأجزاء القابلة للانفجار في جسد الإنسان، وبعضها الآخر كُتب بأسلوب روائي سلس غاية الإمتاع، لذلك من الصعوبة بمكان هذه الأيام أن تجد شخصا موثرا يكتب سيرة ذاتية عظيمة، وبالتحديد عظمة الصياغة والتناول، ويلجأ البعض إلى الاستعانة بشخصا آخر يكتب له السيرة، خاصة إذا كان صاحب السيرة ليس له علاقة بالكتابة أو الأدب، فمثلا أنا قرأت سيرة أحمد لطفي السيد والتي كانت تحمل عنوان "قصة حياتي" ولم احبها، رغم إنني احب وأقدر دور لطفي السيد في الحياة السياسية والثقافية في عصره ولكن لم اميل إلى أسلوبه في الكتابة، على عكس سيرة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، فكتاب "الأيام" يعتبر من أفضل السير التي قرأتها في حياتي، رغم أنه كتبها في تسعة أيام فقط!

عندما اخلو إلى نفسي واتساءل لماذا لدي شغف بقراءة السير الذاتية، فتكون الإجابة أن سيرة الإنسان هي خلاصة تجاربه في الحياة، وهي الطريق إلى دروس التاريخ التي تحدث عنها ويل ديورانت، هي الجسر الذي يربط بين الماضي والحاضر والمستقبل أيضا، خاصة أن سيرة الإنسان هي مرآة لسيرة العصر الذي عاش فيه، فحياة الإنسان بصورة أوسع تتصل بالجانب الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وما إلى ذلك من جوانب العصور المختلفة، وجرت العادة أن السير والتراجم العربية لا تخلو من "الأنا" وتعظيم الذات، وهي سير أقرب إلى الملائكية، متكئًا صاحبها على أن آفة حارتنا النسيان، لذلك ولذلك كله أحب جملة الكاتب البريطاني جورج أورويل التي مفادها أن كل سيرة تخلو من شيئاً شائه لا تعول عليها، لان التجربة الإنسانية لا تخلو من حماقات، أو كما يقول محمد شكري "لقد نسيت أن أكون ملاكا" في سيرته البديعة "الخبز الحافي" وهي من السير الملهمة والتي تجرد فيها كاتبها من كل التابوهات، ولا أنسى بالطبع سيرة عمنا أحمد فؤاد نجم التي تحمل عنوان "الفاجومي" الذي كان ينشرها له عادل حمودة على صفحات الجريدة التي كانت يرأس تحريرها ولكن بعد عدة حلقات وقف نشرها بحجة أنها خادشة للحياء! 

اكتشاف جديد 

قادتني الصدفة للعثور على كتاب يحمل اسم "قارئ الجثث" وعنوان فرعي " مذكرات طبيب تشريح بريطاني في مصر الملكية" وكاتبها هو الطبيب" سيدني سميث" ترجمها إلى العربية "مصطفى عبيد" وبالتأكيد ليس لي سابق معرفة أو قراءة للطبيب، ولكن كنت قد قرأت قبل سنوات رواية "البصاص" للمترجم والذي هو روائي وعاشق لتقريب وتبسيط التاريخ الغير رسمي، وبعد تصفح سريع لصفحات الكتاب قررت أن اشتريه، وكان قررا صائبا. 

سبب الالتحاق بكلية الطب 

الكتاب يضم سيرة دكتور "سيدني سميث" رئيس قسم الطب الشرعي  في عصر مصر الملكية، والذي عاش بها 11 عاما، وأصبح بعد تركه لمصر عميدا لكلية الطب في بريطانيا حتى وفاته، يتحدث سميث بعفوية وصراحة مع النفس قل أن تجدها، وبدأ الكتاب باعتراف أنه لم يدخل كلية الطب لسبب إنساني يحت كما يقول معظم الأطباء، فعندما التحق بكلية الطب لم يكن هدفه علاج المرضى المساكين وما إلى ذلك كسبب أساسي، وأن السبب الحقيقي أنه كان يرغب في الرحلات ويسافر إلى البلاد المختلفة حتى يرى العالم كله، وكانت كلية الطب هي سبيله إلى ذلك. 

أول قضية تشريح في مصر 

كانت أول قضية شارك فيها الدكتور سميث عندما جاء إلى مصر هي قضية تبحث عن هوية مجموعة من العظام المتحللة التي أرسلتها الشرطة له بعد أن عثروا عليها في قاع بئر مهجور، وكان المطلوب من سميث أن يعرف إذا كانت هذه العظام لكائن بشري أم حيوان، وكانوا بالتحديد ثلاث عظام، وكانت نظرة الشرطة والمصريين للطب الشرعي متواضعة في بدايات القرن العشرين، والبعض كان يرفض فكرة التشريح برمتها لأنهم يروا أن في ذلك إهانة وفضح لحرمة الميت، بدأ الدكتور في مطالعة الثلاث عظام، وكانوا عظمتي الفخذ وعظمة الحوض، واستطاع أن يحدد جنس صاحب العظام، وكانت أنثى وفي مرحلة الشباب، وعرجاء لأن عظام الفخذ غير متساوية، ويبدو أنها حملت مرة على الأقل، وسبب الوفاة هي أصابتها برصاصة في الرجل من بندقية محلية الصنع، وحصلت على علاج بدائي لعدة أيام ولكنه لم يجدي نفعا وصعدت روح الفتاة إلى بارءها، كتب ذلك في التقرير الذي أرسله إلى الشرطة، وكان أمر أقرب إلى السحر بالنسبة لهم، لأنهم لم يألفوا ذلك أو يولوا هذا العلم اهتماما في السابق، وطلب منهم الدكتور أن يبحثوا عن فتاة بتلك المواصفات، ونشطت الشرطة في البحث وتم القبض على رجل هو والد الفتاة الراحلة، وبعد مواجهته بالحقائق التي ضمها التقرير، أعترف بأن القتل كان خاطئ، وأنه كان ينظف البندقية فخرجت رصاصة بالخطأ واستقرت في قدم الفتاة، وخاف أن يذهب بها إلى مستشفى حتى لا يتم القبض عليه لأن البندقية التي معه غير مرخصة، وحاول أن يعالجها علاج بدائي ولكن بلا طائل، وماتت الفتاة، فقرر أن يتخلص منها في البئر.

قضية ريا وسكينة 

بعد حل لغز قضية فتاة البئر أصبح للدكتور سميث صيتا كبيرا، وكان يسند إليه القضايا المحيرة، وكان عند حسن الظن دائما، لأنه كان يرى أن مهمة الطبيب الشرعي لا تقل أهمية عن دور رجال الشرطة والقضاء، وحاول أن يجدد في ذلك العلم وينقله إلى مصر، ومن ضمن القضايا التي حقق فيها كانت قضية "ريا وسكينة" التي عاصرها في فترة وجوده في مصر، ويحكي بين طيان مذكراته الرائعة تفصيله تهدم كل الأساطير التي تكوّنت حول قصة ريا وسكينة، سواء في الأعمال الدرامية أو السينمائية أو حتى المسرحية، يحكي سميث أن جاءت إليه عظمة وجدها عمال مصرف في الإسكندرية، وطلبوا منه أن يحدد هويتها، وعندما طالعها شعر بحسه البوليس أن وراء هذه العظمة حكاية كبيرة، وقرر أن يغادر القاهرة ويذهب بنفسه إلى الإسكندرية حيث وجدوا العظمة، وطلب من العمال إلى يعرفوا مصدر هذا المصرف، وبعد التنقيب عرفوا أن مصدره غرفة في أحد الأحياء الشعبية، فذهب معهم سميث إلى الغرفة وطلب منهم الحفر حتى عثروا على 7 جثث لنساء فقط، وعلم ذلك من شعرهم المتناثر بين هياكلهم العظمية التي بدأت في التحلل، فطلب منهم أن يستمروا في الحفر حتى عثروا على 7 جثث أخرى، وتم القبض على ريا وسكينة ومعاونيهم، وهي قصة مغايرة لكل ما قرأناه أو سمعناه في السابق، ليس ذلك وحسب، ولكن يقول سميث أيضا أن هذه الجثث كلها كانت لفتيات ليل، بائعات هوي ليس لهم أهل أو أقارب أو أحدا يسأل عنهم عند غيابهم، وهذا عكس ما كان ينقل أو يعرض في الكتب أو السينما.

أول كتاب في الطب الشرعي 

قام سيدني سميث بتشريح مئات الجثث في مصر، وكان النصيب الأكبر منها مات بسم "الزرنيخ" وهو سم سريع المفعول وليس له لونا أو طعما أو رائحة، وكان من الصعب على طبيب الصحة في ذلك الحين تقدير أو معرفة سبب وفاة  أحد بالزرنيخ، والأمر لم يقتصر على سم الإنسان، فكان يلجأ البعض إلى سم حيوانات شخصا آخر كنوع من العقاب والانتقام، ويقول أيضا أن كان نصيب قضايا الشرف في مصر كبيرا، ويرجع ذلك إلى الجهل والبدائية، وحاول أن ينقل خبرته العلمية إلى الدارسين بكلية الطب، وكتب كتابا هو الأول بالعربية عن الطب الجنائي، وكان يحمل عنوان "الطب الشرعي" وكان حريصا علي أن يشمل الكتاب كل خبراته العلمية والعملية حتى يكون مرجعا مهما لكل دارس أو باحث أو حتى قارئ عادي، وبعد أن فرغ من كتابة الكتاب لم يجد ناشر ينشره له، لأن حركة النشر وقتها عام 1924 كانت متواضعة جدا، فنشر الكتاب على حسابه الخاص، وحقق نجاحا منقطع النظير لأنه كان أول كتاب يتناول هذا العلم الجديد والغير متعارف عليه في ذلك الحين، واستدعاه الملك وكرمه وأهداه سميث نسخة من الكتاب.
يُنشر الجزء الثاني من المقال لاحقا
الوسوم:

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *