مقال
وصفة جديدة للبصارة بالتقلية
استيقظت في الصباح ونفسي "هفاني" على طبق بصارة بالتقلية، وجاءني خاطر بأن أذهب إلى السوق وأخضر طلبات البصارة، وحتي لا أنفض الفكرة من رأسي، قمت من السرير بتثاقل، غسلت وجهي وبدلت ملابسي وخرجت من المنزل قاصدا سوق الخضار، وفي طريقي إلى السوق تذكرت موقف طريف حدث مع الروائي نجيب محفوظ، وهو في اليوم الذي أعلن القائمين على جائزة نوبل فوزه بالجائزة فرع الآداب، كان محفوظ عائدا إلى منزله بعد يومه العملي في الوظيفة الحكومية وفي يده حزمة من البصل الأخضر، أكل محفوظ ونام، وجاء خبر فوزه بنوبل بينما هو نائم، أخبرته زوجته أنه فاز بالجائزة لم يصدقها في بداية الأمر، ولكن بعد أن جاءته مكالمة من جريدة الأهرام تأكد الخبر فلا داعي للشك وعدم التصديق، وحضر السفير السويدي إلى منزل محفوظ حتى يبلغه بالخبر ويبارك له، وكان محفوظ في نصف ملابسه ويتكلم بحرص بكلمات مقتضبة حتى لا تنتقل رائحة البصل إلى السفير عبر الهواء، ضحكت عندما تذكرت الموقف وتخيلت عرض هزلي ساخر ومحفوظ يمسك حزمة البصل الأخضر في يده ويرفعها أمام الكاميرات التي وصلت للتصوير معه وهو يهتف قائلا أن البصل الأخضر هو سر الطريق إلى جائزة نوبل.
دخلت السوق وسرت فيه وأنا أنظر يمينا ويسارا حتى تقع عيني على بائع "خضرة" رأيت رجلا يجلس على الأرض ويضع أمامه جبل من الخضرة، أقتربت منه وطلبت كراث وبقدونس وشبت وكزبرة، ناولني الرجل ما طلبته، وكالعادة لم أستطع أن أفرق بين الكزبرة والبقدونس، سألت البائع كيف أميز بين الأثنين، تطوعت سيدة تشتري أيضا بالإجابة وهي تبتسم إبتسامة ماركة "إيه اللي جاب ده السوق" شكرتها وحملت الخضرة وواصلت طريقي، وقع بصري على جزار كان يعلق لحمة رأس في واجهة المحل، وكالعادة دائما أربط بين الواقع وما قرأته، وعندما تأتي ذكر لحمة الرأس أتذكر موقف عمنا "محمود السعدنى" الكاتب الساخر الكبير، كان السعدنى في أمريكا بصحبة مجموعة من الفنانين والكتّاب، وكان يذهب إلى جزار أمريكاني يطلب منه كل ما لذ وطاب من لحمة الرأس والكواع، وكان يسأله الجزار هذه الأشياء للكلاب؟ وكان يجيب السعدنى بنعم، وفي أحد الأيام خرج السعدنى وأصدقائه ومروا بالجزار، وفق السعدنى أمام الجزار وأشار إلى الأصدقاء وقال ضاحكا هؤلاء الكلاب الذي أخذ من أجلهم لحمة الرأس.
أشتريت فول مدشوش من محل عطارة، وعدت إلى المنزل مرة أخرى، أفرغت الشنطة التي أحملها من محتوياتها على رخامة المطبخ، وضعت الكزبزة والكراث والشبت في طبق، ثم فتحت عليهم الحنفية، غسلت الخضار وبدأت في تقطيعة إلى أجزاء صغيرة، وبالمثل فعلت في الفول المدشوش، أخرجت حلة ووضعت بها ماء ساخن، القيت بها الفول والخضار وكمون وملح وبصلة مقطعة وثوم، تركتهم على النار لمدة نصف ساعة، وبدأت في تقطيع بصلة وبعض فصوص الثوم تمهيدا لعمل الطشة، رفعت الخليط من على النار وتركته حتى يبرد.
نظرت من الشرفة فرأيت أطفالا يعبثون بكلب صغير، حاول أحد المارة أن يخلصه منهم فكان نصيبة وابل من الشتيمة، فحمل ما بقى من كرامة وأكمل طريقه، دائما الكلاب منبوذة ويستخدم البعض غطاء ديني أو شرعي لممارسة العنف معهم، وطبعا العنف مع كل الكائنات بشر أو حتى حيوانات، و استخدام نصوص توفيقية وأحيانا تلفيقية لممارسة العنف ضد الآخر، تذكرت إنني كنت أشارك في مسابقة ما وكان موضوعها التصدي لأي مشكلة تواجه المجتمع، ومن خلال مراقبتي للمكان الذي كنت أعيش فيه كان جزء كبير من المواطنين يشكو من ظاهرة انتشار الكلاب، وكانت اقتراحات الغالب الأعم من الناس هو تسميم الكلاب رغم أن ذلك يخل بالتوازن البيئي على المدى الطويل، ولكن لأن عادتنا ومش هنشتريها، فنحن لا ننظر إلى بعيد أو حتى إلى أبعد من نظرنا بمتر واحد، اقترحت وقتها أن في الغرب تطعم الكلاب بمصل أو لقاح حتى تكون أليفة وغير عنيفة، وكانت لدي معلومة من طبيب بيطري أن ثمن السم المستخدم لقتل الحيوانات أعلى من ثمن المصل، فكان رد المحكم أنه يمكنه أن يمسك طوبة ويلقيها على الكلاب وبذلك يحل المشكلة!
قرأت مرة أن الإنسان يشعر بالخيلاء عندما يمارس العنف ضد الشخص الأضعف منه، الإنسان السيكوباتي بالتأكيد، المرء يفكر قبل ممارسة العنف ضد الآخر لأن هناك قانون يمنعه من ذلك، ولكنه يمارس العنف ضد الحيوانات لأن لا يوجد قانون ملموس يمنع ذلك، وكأن المانع هو القانون لا الإنسانية، ويقول د. مصطفى حجازي فيه كتابه الممتع "التخلف الإجتماعي" أن العنف ينتقل من فئة إلى أخرى، المدير يمارس العنف والسلطاوية ضد الموظف والموظف يفعل بالمثل مع الساعي والساعي يفعل ذلك مع زوجته وزوجته تفعل ذلك مع أطفالها وهكذا دواليك، وأظن وبعض الظن ليس إثم أن لو كان الكلب أو أي شيئا آخر هو ملك لأحد الشخصيات الهامة لكانت المعاملة هتختلف تماما، وتحضرني قصيدة عمنا أحمد فؤاد نجم "الفاجومي" وبالتحديد قصيدة "كلب الست" الذي كتبها للرد على واقعة شهيرة وهي قيام كلب الست "أم كلثوم" بـ "عض" أحد المارة بجوار فيلا الست، وبالطبع لم تحصل الست أو كلب الست على أيّ عقاب، فكتب الفاجومي قصيدته الشهيرة التي يقول في موضع بها:
في الزمالك من سنين
وفي حمى النيل القديم
قصر من عصر اليمين
ملك واحدة من الحريم
صيتها أكتر من الأدان
يسمعوه المسلمين
والتتر والتركمان
والهنود
والمنبوذين
ست فاقت على الرجال
في المقام والاحترام
صيت وشهرة، وتل مال
يعني في غاية التمام
قُصره يعني هي كلمة
ليها كلمة في الحكومة
بس ربك لاجل حكمة
قام حرمها من الأمومة
والأمومة طبع ثابت
جوه حوا من زمان
تعمل ايه الست؟ جابت
فوكس رومي وله ودان
فوكس دا عقبى لأملتك
عنده دستة خدامين
يعني مش موجود في عيلتك
شخص زيه يا اسماعين
وفي موضع آخر يقول:
إنت فين والكلب فين
إنت زيه يا اسماعين؟!،
طب دا كلب الست يا ابني
انت تطلع ابن مين
والكاتب الروسي الشهير "أنطون تشيخوف" له قصة قصيرة تناولت نفس الفكرة، يحكي أن في ريف روسيا كان يسير شخص، وفجأة ظهر كلب من العدم، انقض الكلب على المار وعضه، صرخ الرجل وتجمعوا الناس، واستدعوا الشرطي الذي جاء مهرورا، سأل الشرطي الوافقين هذا الكلب ملك مين؟ تطوع أحد الحاضرين وأجاب بأنه ملك رجل فقير يسكن في طرف القرية، فقال الشرطي يجب معاقبة الكلب وصاحبه وهيوا بنا إلى بيت هذا الخارج عن القانون، ولكن قال أحد الواقفين أن هذا الكلب هو كلب أحد النبلاء الأغنياء الذين يسكنون القصور، فتسمر الشرطي في مكانه ووجه الاتهام إلى المار الذي تطاول على الكلب وقال له بعض الألفاظ الخادشة للحياء!
عدت ثانية إلى المطبخ، كانت البصارة بردت، وضعتها في الخلاط حتى تصبح المكونات خليطا واحدا، ورفعت حلة على النار، سكبت بها الخليط، و أخرجت "طاسة" القدحة، وضعت بها ملعقة زيت والتقيت بالبصل المفروم والثوم بها، انتظرت حتى تأخذ اللون الذهبي، وبعدها سكبت نصف التقلية على الخليط، وتركت النصف الآخر يوضع عند التقديم.