جنتها المكتبة وتنفق مصروفها على الكتب.. «شهد» أصغر مثقفة بالصعيد
كتب: إسلام كمال
قبل سنوات طويلة
كتب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين كتاب «مستقبل الثقافة في مصر»، ووقتها هاجت
وماجت عليه الدنيا، ونشطت الأقلام وكتبوا ما يقارب الأربعين كتاب ردا على كتابه، ورغم
مرور ما يقرب من المائة عام على تأليف كتاب طه حسين إلا أن الأفكار التي جاءت فيه صالحة
وقابلة للتطبيق، ويبدو أننا لا نتحرك من أماكنا منذ أمدا طويلا، ومن ضمن الأفكار التي
عرضها العميد في كتابه أن العقل الغربي لا يختلف عن العقل الشرقي أو العربي، وإذا
جئنا بطفل من الغرب وقمنا بتربيته في الشرق سيحمل بالضرورة صفات وطريقة تفكير أهل الشرق
والعكس صحيح، وهي نفس الفكرة التي تناولها الكاتب إدوارد غاليانو، في كتابه
«أبناء الأيام» حيث إننا أبناء الأيام والظروف والبيئة التي نشأنا فيها.
وبالطبع لكل قاعدة
شواذ، ولكن الفعل الشاذ أو المختلف لا يصح أن يكون القاعدة، أي أن لو نبغ شخص
ما في ظل ظروف قاسية، فهذا لأنه مختلف أو خارق لأنه تجاوز كل أسباب الفشل واستطاع
أن يصل إلى ما أراده لنفسه، بالتالي التشدق بأن انظروا إلى هذا الشخص كيف فعلها
هو محض هراء، والصحيح أن تتوفر له سبل النجاح أو الحد الأدنى منها وإذا لم يستطع تحقيق
النجاح فهذا هو الشاذ عن القاعدة.
«شهد» طفلة في
المرحلة الابتدائية من التعليم، نشأت في حي شعبي في محافظة المنيا، تعيش وسط
أسرة متوسطة كحال أغلب الأسر المصرية، ورغم صعوبات الحياة «شهد» تحب القراءة وبالتحديد
قراءة المجلات، تحصل على مصروف ضئيل كل يوم وتقوم بجمعه حتى نهاية الأسبوع،
لا تنفق منه شيئا، وفي يوم الخميس من كل أسبوع تذهب إلى مكتبة تبيع الكتب القديمة في
الناحية التي تقطن بها، تنسي العالم في الخارج، وتعتبر الجنة على شكل مكتبة كما قال
«بورخيس»، تقلب في المجلات المختلفة بشغف وحب وتطلع إلى المعرفة، تنتقي المجلات بعناية
بعد أن تفر صفحاتها وتتأكد من سلامتها وعدم وجود عيوب بها.
يسرقها الوقت داخل
المكتبة ولكنها لا تكترث فغدا أجازة من المدرسة، واليوم وغدا هو
وقتها المخصص لفعل القراءة، تنتهي من عملية الفحص وتمد يدها بالنقود إلى صاحب المكتبة،
وتحمل المجلات برقة كأنها تحمل كنزا ثمينا، وتمضي في طريقها وعلامات الزهو على وجهها.
يقول صاحب المكتبة
إن «شهد» فتاة مجتهدة وعندها شغف قل أن تجده هذه الأيام، والحقيقة يتردد عليه
أطفال كثيرة تشبه شهد، أطفال يسعون إلى المعرفة رغم ضيق الحال، دائما ما يمرّ به أشخاص
يجذبهم شكل المكتبة، يقفوا ويتأملوا الأرفف التي تفيض بالكتب، ثم يقولون في حسرة:
«مكتبة جميلة بس ليه فاتحها في حتّة شعبية.. دي المفروض تكون في أرقى مكان في المحافظة..
الناس هنا جهله!»، وهذه العبارات تغضبه، لأن الرقي لا يكون مقياسه المال وفقط،
الرقي هو رقي العقل وأسلوب التعامل، لا يهتم كثيرا لهذه العبارات المحبطة فالتجربة
وحب وشغف الأطفال أثبتوا عكس ذلك.